اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

عندما تنهي نصًّا روائيًّا تحملك قراءة صفحته الأخيرة لتشعر بقشعريرة مفاجِئة تطلِق لكَ العنان لإعادة التفكير بكلّ النقاط التي قررت الكتابة عنها وتحليل رمزيتها، فاعلم أنك أمام نصّ روائيّ محبوك ومشغول باحترافية عالية ومصداقية في التجربة الشعورية لا تقارَن، "مستر نون" لنجوى بركات (دار الآداب 2019) هو هذا النصّ الذي لا تؤدّي كاتبته إحدى الألعاب الروائية لتصل إلى تلك الصفحة، بل يكون بوضوحه ومعالجته الواقعية لأزمات أبناء بلادنا النفسية، منذ صفحته الأولى، نقطة القوة التي فيه، والجديد الذي قدّمه.

تحكي الرواية قصّة "مستر نون" الذي يخبرنا بأنه يسكن في غرفة فندق منذ سنوات، يجاوره السيد داود وزوجته الصماء، والسيدة مريم، كما يحكي لنا بعض تفاصيل ما يدور في ذلك الفندق، ويأتي على ذكر المسّ زهرة والمدير أندريه الذي يجتمع به من حين إلى آخر. ذلك الفندق وتلك الغرفة التي تبلّغنا الرواية قبيل نهايتها إلى أنها مصحّة ونون نزيل هناك بوصفه مريضًا نفسيًّا، ولكن لم يحتج القارئ إلى جهد ليكتشف ذلك ما بعد بدايتها بقليل، فكثيرة كانت الدلائل على ذلك، ولكنك تقول فلننتظر لنرى ما تريده الكاتبة من ذلك الإيهام.

"مستر نون" أو كما رافقتني خلال القراءة Mr No one، وهي إن دلّت على أنها لعِب على الكلام بشكله البسيط، إلا أنها كانت تعبّر عن الحالة، فاختيار "نون" جاء وكأنه كان مرتبطًا بتلك التسمية في لاوعي الكاتبة من دون أن تدري، فمن منّا يعبأ بأفكار المريض العقلي أو النفسي، ألا لا يصبح هؤلاء غير مرئيين من أقاربتهم قبل الآخرين! وعلى الرغم من بساطة الموضوع، تحيلك الصفحة الأخيرة إلى إعادة التفكير، في هذا التحليل أيضًا، ولكنّه تحليل لا بدّ منه.

"مستر نون" يعاني من اضرابات نفسية أدّت إلى أن يقرر إنهاء حياته في النهاية، وهو الذي عانى من تهميش الأمّ ثريّا وقسوتها وبرودها طفلًا، وشاهد بعينيه والده الطبيب ينتحر قافزًا من شرفة بيتهم طفلًا أيضًا، وشاهد رجال مستر جو يرمون حبيبته النيبالية شاها من الطابق الرابع ويسمع وقع ارتطامها فتموت، وهو الذي علم، أو لا ندري قد يكون قد ألّف تلك القصة، حول سبب انتحار والده، الطبيب الذي نجا من مجزرة الكارنتينا في بداية الحرب الأهلية، ولكنه شهد، أو تسبّب عن غير قصد، بمجزرة الأطفال الذين احتموا في عيادته، لِمَ لا وهو الروائي، الروائية، الذي نعرف عنه أن له روايات وقصصا مشهورة، وهو الذي أحيا لقمان ثمّ أماته ثمّ استحضره غير مرّة، كلّ الرواية هي كذلك، أو قد تكون!

حكمت الرواية أسباب كثيرة للأمراض النفسية، كلها بسبب أوضاع بلادنا التي ما إن تنتهي أزمة فتبدأ أخرى، فمريم التي قَتَلت عائلتها البراميل في سوريا، والتي بقيت في المصحة تحضر لهم الطعام إلى أن أنهت حياتها، وداود كما اختار له نون اسمه وقسوته على زوجته التي انتحرت بسببه، ونون والحرب الأهلية التي لم يُشفَ منها بعد، هو وكل من عاشها ومن سمع قصصها، ومن يدري ما كان سيحمله النصّ لو أن كاتبته لم تنهِ كتابته وحصل ما حصل في الرابع من آب.

لا بدّ من الإشارة من تناصّ لا مجال للتوسّع فيه هنا، وهو بين اختيار الكاتبة لاسم الممرضة "المس زهرة" واسم الممرضة في مسرحية زياد الرحباني "فيلم أميركي طويل" التي تدور أحداثها في مصحة للأمراض النفسية والعقلية في ضاحية بيروت خلال الحرب الأهلية، فتأتي التسمية لتدلّ على أن أمراض الحرب النفسية ما زالت ممتدّة حتى أيامنا هذه. أمّا التناصّ الثاني فهو بين هذه الرواية ورواية "فاتن المرّ" الجديدة "حيث يبدأ الصدع" حيث يعاني بطلها من انفصام في الشخصية، بسبب انفجار الرابع من آب، مع ما يحمله في لاوعيه من ترسّبات الحرب الأهلية وهو ابن أحد المخطوفين الذين لم تُعرَف مصائرهم حتى اليوم، فيأتي الاستنتاج إلى أنّ المبدعين اللبنانيين، وخصوصًا من هم من جيل الحرب الأهلية، ما زالوا محكومين بتلك الأزمات وما زالت متحكمة بكتاباتهم.

كثيرة هي الرموز التي حكمت النصّ، إلا أنّ رمز المربّع أعلى ظهر "مستر نون" حيث يربت الأهل عادة على تلك البقعة ليرتاح أطفالهم ويهدؤوا، وما حمله من جدّة حول علاقة الطفل الحميمة، ليس بالاحتضان كما هو شائع، أو بثدي الأم أو بقدوة الأب، بل بذلك المربّع، بين الكتفين، الذي إن لم يتلقَّ الكم الكافي من ضربات الكفّ الخفيفة، سيلجأ إلى أن يُضرَب ويستمتع بالضرب والإهانة كما فعل، فعلت، نون.

إنه نصّ كاملٌ، متكاملٌ، لغةً وتأثيرًا، سرديّته فيها من الشعرية ما يجعلك تطير لتحطّ بين كلّ قسوة مشهد وألم حدث ومعاناة مرحلةٍ، جمعتها شخصيات الرواية المأزومة، عاليًا مع مشاعرك، أو انحدارًا مع أوحال البلاد، فتقول في نفسك، هذا نصّ حمل "قرفَ البلاد" ليحوّله إلى جوهرة أدبية نادرة.


الأكثر قراءة

العثور على 6 جثث لأسرى لدى حماس مقتولين يُحدث زلزالاً في «إسرائيل» الشارع يتحرّك ضدّ حكومة نتانياهو... ونقابة العمّال تعلن الإضراب الشامل