اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب
عندما يتحدّث صندوق النقد الدولي عن إصلاحات في الموازنة، فهو يقصد بكل بساطة رفع الإيرادات وخفض النفقات مع إستدامة هذين الأمرين. عندها فقط يُمكن الحديث عن إنتظام في المالية العامة! مجموعة الإجراءات التي تُكوّن هذه الإصلاحات تُشكّل شرطًا أساسيًا لصندوق النقد الدولي، يجب على أي حكومة تطلب مساعدة صندوق النقد – ماليًا – أن تُنفّذها.

في حالة لبنان، هذا يعني وضع وتنفيذ خطّة ذات مصداقية لإعادة هيكلة القطاع المالي، ووضع وبدء تنفيذ استراتيجية مالية متوسطة الأجل متسقة مع القدرة على تحمل الديون، ووضع وتنفيذ سياسة نقدية مع توحيد لسعر الصرف، وإصلاح الشركات المملوكة للدولة، ووضع وتنفيذ خطّة للحوكمة الرشيدة، ومكافحة الفساد ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. هذا ما ورد حرفيًا في أخر تقرير لصندوق النقد الدولي عن لبنان (Article IV).

ماذا فعلت الحكومة من كل هذه المطالب؟

قدّمت حكومة تصريف الاعمال مشروع قانون لإعادة هيكلة القطاع المصرفي من دون التطرّق إلى المالية العامة. هذا المشروع يفتقد للمصداقية من ناحية وضوح الرغبة في ضرب القطاع المصرفي ومعه الودائع بأكملها، عبر وضع شروط لا يستطيع أي مصرف الإلتزام بها. وبالحديث عن المالية العامة، أين هي قطوعات الحساب؟ وهل العجز المُعلن هو فعلًا العجز الحقيقي في كل موازنات الأعوام الماضية، وحتى في مشروع موازنة العام 2023 و2024؟ كيف تمّت تغطية عجز موازنة العام 2023 التي ردّها المجلس النيابي؟ وهذا ينقلنا مباشرة إلى السؤال عن الإستراتيجية المالية متوسطة الأجل المتسقة مع القدرة على تحمّل الديون، أين هي هذه الإستراتيجية؟ في الواقع كل ما قامت به حكومة تصريف الاعمال هو رفع الضرائب والرسوم بشكلٍ عشوائي (أصبحت الإيرادات بحسب المصادر 22 تريليون ليرة شهريًا تذهب بمعظمها إلى الإنفاق التشغيلي)، وإعتمدت على إنخفاض سعر صرف الليرة لإعادة توازن «غير مُحقّق»، والدليل هو إعترافها في مشروع موازنة العام 2024 بـ 17 ألف مليار ليرة لبنانية عجز في هذه الموازنة (توقعاتنا تُشير إلى أكثر من ذلك). حتى أن الحكومة تجد صعوبة هائلة في إعادة تشغيل مرافقها العامّة، وهو ما يطرح السؤال عن إصلاح الشركات المملوكة للدولة والمرافق العامّة، أين هي خطّة إعادة هيكلة القطاع العام؟ وهل هناك من نيّة لخصخصة شركات القطاع العام كما يُطالب به صندوق النقد الدولي؟

أمّا فيما يخص السياسة النقدية، فسحب الليرة من السوق وخفض الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية إلى مستواياتها الدنيا، يجعل من الليرة سلعة نادرة، بدل أن تكون عملة في خدمة الإقتصاد. وقد ساعد قرار حكومة تصريف الاعمال بدولرة الإقتصاد في التخلّي عن الليرة اللبنانية. وبالتالي عن أي سياسة نقدية نتحدّث؟ الشيء الوحيد الذي سيحصل في المرحلة القادمة، هو توحيد سعر الصرف الذي سيتم من خلال تحرير سعر الصرف على منصّة «بلومبرغ»، وهو أمر يوضع على رصيد حاكم المصرف بالإنابة.

إن السبب الأساسي للإنهيار المالي الحاصل في لبنان هو وضع المالية العامّة. لذا لا يُمكن الحديث عن إنتظام للمالية العامة دون اللجوء إلى العلم، الذي يفرض معادلة «قيد الملاءة الزمنية». وتنص قيود الميزانية الحكومية الزمنية على أن مستوى الدين الأولي، يجب أن يكون مساويًا للقيمة الحالية للفوائض المستقبلية، أي أن الدين الحكومي يجب أن يكون مدعوماً بالتدفقات النقدية المستقبلية المتوقعة. أين هي هذه التدفقات في الخطّة الحكومية؟ في الواقع لا يوجد إلا الضرائب والرسوم وفواتير الخدمات العامة، التي تقوم برفعها من دون أية إصلاحات لمكافحة الفساد وضبط الحدود وتحفيز الإقتصاد الذي هو المورد الأساسي للضرائب (في الأحوال الطبيعية).

أي إصلاح مالي يجب أن يأخذ بعين الإعتبار:

- الحفاظ على أموال المودعين للحفاظ على مصداقية الدولة والمصارف والإقتصاد.

- إعادة هيكلة القطاع المصرفي، لأن لا إقتصاد من دون قطاع مصرفي وإعادة هيكلة القطاع العام، لأن حجم الدولة اللبنانية في الإقتصاد هو من الأعلى عالميًا.

- إعادة بسط سيادة الدولة المالية على أراضيها، بهدف تحسين الإيرادات من دون رفع الضرائب والرسوم.

- تحرير القطاعات الإقتصادية بهدف زيادة التنافسية وتحفيز الإقتصاد.

- محاربة الفساد والتهرب الضريبي وتبييض الأموال التي تُعتبر علّة لبنان الأولى.

- تفعيل القضاء الضامن الوحيد للعمل السليم للماكينة الإقتصادية.

- تحديث القوانين بما يتلاءم والتطور العصري.

- تعزيز الشفافية خصوصًا فيما يخص الدين العام، وبالتحديد قطوعات الحساب التي تخفي في خباياها الكثير من الأسرار.

- إقرار القوانين المرحلية مثل قانون الكابيتال كونترول، الذي من دونه لا يُمكن تنفيذ إصلاحات فعّالة.

أي إصلاح لا يأخذ بعين الإعتبار كل هذه العناصر هو إصلاح غير مستدام، وبالتالي لا يُمكن الحديث عن إنتظام في المالية العامة.

يبقى القول، أن عجز الحكومة عن القيام بالإصلاحات المناسبة يأتي من عدّة عوامل، منها الصراع السياسي القائم ، الذي يمنع إنتخاب رئيس جمهورية وتشكيل حكومة أصيلة تتمتّع بصلاحيات كاملة بحسب ما ينص عليه الدستور اللبناني، والفساد المُستشري في القطاعين العام والخاص ، والذي يمنّع العديد من الإصلاحات خصوصًا على مستوى هيكلية الدوّلة ومؤسساتها وعلى مستوى رفع اليد السياسية عن القطاعات الإقتصادية.

وبالتالي من البديهي القول أن الخروج من الأزمة المالية والإقتصادية يمرّ إلزاميًا بإعادة تكوين السلطة التنفيذية (رئيس جمهورية بالإضافة إلى حكومة أصيلة)، وأن يكون هناك حدّ أدنى من التوافق بين القوى السياسية، لتمرير الإصلاحات التي تخدم الشعب اللبناني بالدرجة الأولى، سواء كان في الحكومة أو في المجلس النيابي.

في الختام، لا يسعنا القول إلا أن ما يَرِد في الكتب والمقالات العلمية الإقتصادية، والتي تتحدّث عن تأثير الأداء السياسي والحوكمة على الإقتصاد، ما هو إلا جزءٌ بسيط من الحقيقة التي نعيشها في لبنان. هذه الحقيقة تُشكّل مثالًا حيًا وصارخًا لمدى هذا التأثير الذي يأخذ أكثر من أربعة ملايين لبناني أسرى ورهينة لتوافقات دولية وإقليمية ومحلّية، في حين أن سلطة الشعب على أراضيه مضمونة بالدستور، عبر إعطاء المواطن مرجعية السلطات. فهل أحسن المواطن اللبناني إختيار مُمثّليه؟

الأكثر قراءة

سيجورنيه يُحذر: من دون رئيس لا مكان للبنان على طاولة المفاوضات الورقة الفرنسيّة لـ«اليوم التالي» قيد الإعداد حماس تؤكد: لا اتفاق من دون وقف نهائي لإطلاق النار!