اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

في رحاب الأماكن الرمادية حيث تتلاقى تكنولوجيا العصر وأواصر العمل، تنكشف أمامنا حكاية لا تروى إلا في لغة الأثاث وتنظيم الفضاء. هنا، في المكاتب المتلألئة بضوء الشاشات والتقنيات المتقدمة، يتجسد الحياة اليومية للعاملين بكل تفاصيلها وتعقيداتها. إنها ليست مجرد أماكن عمل، بل مملكة مختلفة تتراقص فيها خيوط الإنتاج والإبداع، ولكن هل تعلمون أن هناك حكاية أخرى تندرج ضمن هذا السياق الفاتن؟ حكاية حول كيفية تأثير بيئة العمل في المكاتب على صحة الرقبة والظهر.

تلك الأركان المكتبية، التي تحمل عبء تحديات اليوم الطويل، تصارع الأجساد العاملة، لتجعلنا نتساءل: هل تلك الكراسي الرفيعة والشاشات الساطعة تعزف سيمفونية راحة ورفاهية، أم تكمن فيها نغم متلازمات الرقبة المنحنية وآلام الظهر المستمرة؟

فلا بد من الغوص إلى أعماق الفضاءات المكتبية، لنقف على الأسرار التي تحملها تلك الأثاث والأجواء والكشف عن آثار الجلوس المستمر وزوايا العمل الخاطئة على جسم الفرد، وكيف تبدأ تلك الأركان في ترويض حركاتنا وتحدياتنا اليومية؟

إذا كنتم تشعرون بالفضول لمعرفة كيف يمكن للبيئة المكتبية أن تكون فارسًا يحمل درع الراحة، أو عدوًا ينذر بتدهور صحة الرقاب والأظهر، فترقبوا رحلتنا في عالم تقييم بيئة العمل، حيث يمتزج الأداء بالرفاهية، وتتعانق الصحة بالتطور.

كيف يمكن تقييم بيئة العمل في المكاتب من حيث تأثيرها على صحة الرقبة والظهر؟ هل هناك عوامل معينة في بيئة العمل تسهم في زيادة الآلام؟

تأكيدًا على الارتباط الوثيق بين بيئة العمل في المكاتب وصحة الموظفين، أشارت دكتورة العلاج الفيزيائي، تهاني النجار، في حديثها لـ "الديار"، إلى الآثار الضارة التي يفرضها العمل المتواصل على فقرات الظهر والرقبة. وقد أكدت الدكتورة النجار أن هذا الضغط المتواصل يُسفر عن آلام حادة في الرقبة، قد تمتد لتصل إلى اليدين، متسببًا في ضعف في أعصاب اليدين.

وبالإضافة إلى ذلك، أوضحت الدكتورة النجار أن الجلوس لفترات طويلة يمكن أن يكون مصدرًا للآلام الميكانيكية، التي تنتقل بشكل تدريجي إلى أطراف الأرجل. وفيما يتعلق بالعوامل التي تسهم في زيادة هذه الآلام، ألمحت الدكتورة إلى أهمية تحديد فترات استراحة، وتحفيز التحرك بين الحين والآخر، فضلاً عن ضرورة تجهيز المكاتب بشكل مريح لتحقيق أقصى درجات الراحة للموظفين.

ما هي الأفضليات في تصميم مكتب العمل لتجنب آلام الرقبة والظهر؟ هل هناك توجيهات خاصة لتنظيم الكراسي والطاولات؟

في عالم يسوده الارتباط الدائم بالتكنولوجيا، أصبحت آلام الرقبة ظاهرة شائعة، خاصة بين الأفراد الذين يعتمدون على الهواتف المحمولة بشكل دائم. فالذين يحملون هواتفهم بيديهم ويرتكبون عادة التحني إلى اليمين أو اليسار لتثبيت الهاتف أثناء قيامهم بمهام مكتبية يشكلون فئة أكبر عرضة لتلك الآلام. دعت الدكتورة تهاني النجار إلى ضرورة تغيير هذه العادات الضارة لغرض الوقاية والعلاج، حيث يمكن أن يؤدي استمرار هذا السلوك إلى آلام حادة في الرقبة ومشاكل صحية.

لتجنب انحناء الرقبة بشكل متكرر والتخفيف من الضغط الناتج عن حمل الهاتف بيد واحدة، يُفضل استخدام سماعات لا سلكية بدلاً من وضع الهاتف مباشرة على الأذن. ولضمان عدم التسارع الفجائي للرقبة أثناء التحدث في المكتب، يُنصح بتجنب استدارة الرقبة بشكل مفاجئ.

في سياق تجهيزات المكتب، تشدد د. النجار على ضرورة أن يتمتع الكرسي والمكتب بصفات الراحة والتوافق الجسدي. يُنصح بضبط ارتفاع مستوى العين بحيث يكون متناسبًا مع ارتفاع الكرسي والمكتب، لتجنب أي تحريك غير طبيعي للرأس، مما يقلل من خطر حدوث آلام في الرقبة. ولاسيما أنه من المفضل توفير مساند للكراسي لتعزيز الدعم وتعزيز الراحة خلال فترات الجلوس الطويلة.

في سياق آخر، يتعين توفير الماوس بشكل يجعله قريبًا من جسم الموظف، ويجب أن تكون يده موجهة بشكل مستقيم، مما يمنع الحاجة للانحناء أو الارتفاع للوصول إليه. هذا التدابير مهمة للحفاظ على سلامة عصب اليد، وفي الوقت نفسه، تقليل التوتر في الرقبة، مما يسهم في تقليل الأوجاع.

ويجب أيضًا أن يكون هناك دعم جيد للظهر عبر استخدام مساند للظهر، لضمان وضع جلوس صحي ومستقيم يسهم في تقليل الضغط على الرقبة والظهر وبالتالي تحسين الراحة العامة للموظف.

كيف يمكن تثقيف الموظفين حول ممارسات الجلوس الصحيحة واختيار الأثاث المناسب؟ هل هناك تمارين أو نشاطات يمكن توجيه الموظفين إليها لتقوية العضلات وتخفيف الضغط؟

هناك مجموعة من التمارين التي تسهم في تعزيز الاسترخاء، حيث أوضحت الدكتورة النجار أهمية اعتماد مجموعة من التمارين للحفاظ على الراحة الجسدية. في سياق ضرورة تخفيف التوتر والتوجه نحو الاسترخاء، تنصح بأن يجلس الموظف بشكل مستقيم ويمتد بيده اليمين نحو كتفه اليمين، ويكرر هذا التمرين كل ساعتين إلى ثلاث ساعات لمدة تقارب 15 دقيقة، وهو يعمل على تخفيف التوتر في عضلات الرقبة.

وتقديم تمرين إضافي يتمثل في قيام الموظف بميل رأسه إلى الوراء قدر الإمكان، حيث يساهم هذا التمرين في شد العضلات الرقبية وتقليل آلام الرقبة. ويمكنه أيضًا الجلوس بشكل مستقيم وابتلاع ذقنه، مما يؤدي إلى شد العضلات الخلفية للرقبة.

لا تقتصر الفوائد على ذلك، بل يمكن للموظف أيضًا تنفيذ تمرين يشمل الوقوف على أصابع القدم، مما يسهم في تنشيط الجسم بأكمله وتحفيز الحركة. تلك التمارين تعد جزءًا أساسيًا من استراتيجية الحفاظ على الراحة الجسدية والتقليل من آلام الرقبة في بيئة العمل.

كما شددت الدكتورة النجار على ضرورة وجود مدرب خاص أو معالج فيزيائي في كل مؤسسة، يقوم بمساعدة الموظفين في القيام بالتمارين المناسبة لتخفيف آلامهم الناجمة عن فترات الجلوس الطويلة في أماكن العمل.

كما ذكرت د. النجار العديد من الدراسات التي تسلط الضوء على تأثير الجلوس لفترات طويلة في المكتب على صحة وأداء الموظفين. وهذه آخر الدراسات:

1. تأثير الجلوس على الصحة البدنية: دراسة نشرت في "American Journal of Epidemiology" عام 2012 أشارت إلى أن الجلوس لفترات طويلة يرتبط بزيادة خطر الإصابة بالأمراض المزمنة مثل أمراض القلب والسكري. يُظهر البحث أن التحرك القليل أو النشاط البدني المحدود يمكن أن يساهم في تدهور الصحة البدنية.

2. تأثير الجلوس على الصحة النفسية: دراسة أُجريت في جامعة "Sydney University" عام 2015 تبين أن الجلوس المطول يرتبط بزيادة في مستويات التوتر والقلق، ويمكن أن يؤدي إلى تقليل الراحة النفسية. يُشير الباحثون إلى أن تحسين نمط الحياة في مكان العمل يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على الصحة النفسية للموظفين.

3. تأثير الجلوس على الأداء الوظيفي: في دراسة أُجريت في "Ergonomics" عام 2016، وُجد أن الجلوس المستمر لفترات طويلة يترافق مع تقليل في الأداء الوظيفي، خاصة في ما يتعلق بالتركيز والانتباه. يُظهر البحث أهمية تحفيز الحركة وتقديم بيئة عمل ملائمة لتعزيز الأداء الوظيفي.

4. تأثير الجلوس على الإنتاجية: في دراسة نشرت في "Journal of Physical Activity and Health" عام 2019، تم اكتشاف أن إدراج فترات قصيرة من النشاط البدني في جداول العمل يمكن أن يحسن الإنتاجية ويخفف من التعب والإرهاق الناجم عن الجلوس المطول.

تتراكم هذه الدراسات لتظهر أهمية تحفيز الحركة وتوفير بيئة عمل صحية لتحسين صحة الموظفين وتعزيز أدائهم ورفاهيتهم الشخصية.

في ختام حديثنا، نجد أن البيئة المكتبية ليست مجرد مكان لأداء الواجبات اليومية، بل هي فضاء يترسخ فيه الجسد وتتقاطع فيه الراحة مع الإنتاجية. إن تأثير الجلوس المستمر والتكنولوجيا المحيطة بنا على صحة الرقبة والظهر يتطلب توجيه الضوء نحو ضرورة إحداث تحولات في تصميم وتنظيم أماكن العمل.

فبالاعتناء بتوفير كراسي مريحة، وتوزيع الأثاث بشكل يدعم الجسم، وتشجيع الحركة وتبني عادات صحية، يمكننا تحسين جودة حياة الموظفين وتعزيز رفاهيتهم. على إدارات الشركات أن تتبنى سياسات تروج للتوازن بين العمل والاستراحة، وأن تدرك أن صحة الموظف ليست فقط مسؤولية فردية بل هي جزء لا يتجزأ من تحقيق النجاح المستدام.

فلنتحد معًا في سبيل تحويل مكان العمل إلى منبر للإنتاجية والراحة، حيث يزهر الإبداع وتزهو الصحة. فبتغيير نهجنا نحو بيئة عمل ترعى الصحة وتحفز على الحركة، نخطو نحو مستقبل يعكس التفاني في رفاهية العاملين وتحقيق الأهداف المشتركة. 

الأكثر قراءة

اكثر من حجمه