اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

تبدأ رواية حسونة المصباحي الجديدة "على أرصفة الشَّتات" (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر 2023) بأنها تؤرِّخ لأحداث وقعت في السبعينيات والثمانينيات وقد كُتِبَت عام 1996، فيكون الاستنتاج الأوّل أنّ النصّ ليس جديدًا، وبالتالي لستَ أمام رواية جديدة للكاتب، ولكن أمام نصّ قرَّر نشره اليوم، فتقرّر البحث عمّا تقدّمه الرواية والأسباب التي جعلته ينشرها بعد ما يقارب الثلاثين عامًا.

تبدأ الرواية، أو ما قرَّر الكاتب، والناشر، تصنيفها على هذا الأساس، بحديث هاتفيّ بين صديقين يقرّران اللقاء في باريس، أحدهما قادم من ميونيخ، والآخر في باريس التي ما زال يبحث فيها عن تحقيق حلم قديم. من ثمّ تنتقل بنا الأحداث إلى خريف العام 1982 في تونس، ومن هناك تبدأ رحلة التأريخ التي وعد بها الكاتب.

الراوي العليم، وهو الشخصية الرئيسة التي تروي عن نفسها وعن أصدقائها، والتي لا تطالعنا الرواية باسمها، لا تعطينا الكثير من المجال للتكهّن، لأن نقول إنها المصباحي نفسه، حتى وإن غيّر أو أضاف أحداثًا أو شخصيات أو أسماء أو مدن أو أزمنة، فإنّ الحال يظلّ مرافقًا المتلقّي حتى نهاية النصّ. ولأننا أمام نصّ تمّ تصنيفه بأنه رواية، فكان يجب الوقوف على كلّ ما يُقرَأ بوصفه عملًا فنّيًّا أدبيًّا سرديًّا وليس توثيقيًّا.

النصّ يحكي أحوال "مثقّفين" من الشباب العرب المشتّتين في مدن العالم العربي ومدن أوروبية وغيرها، ولكن المصطلح "مثقّف"، والذي يذكره الراوي دائمًا ليحكي قصصًا ولقاءات مع من يلتقيهم أو يلتقي من يروي عنهم، كان أساسًا في ما يبحث عنه المتلقّي، وهو سبب نشر هذا النصّ اليوم، فتكون الأسئلة حول "من هو المثقّف وما دوره وما المتوقَّع منه...؟" هي الأساس، فتجد نفسك أمام كمّ من الأسئلة، تحيلك إلى دور المثقّف العربيّ اليوم، وما أوجه الاختلاف والتشابه بين من وصفهم بالمثقفين في تلك المرحلة ومثقّفي اليوم، وهل ما زالت الأسئلة نفسها حول التعريف بهم وبأدوارهم.

شخصيات كثيرة مرّت سريعًا، ولكن كان أبرزها رنا، والعراقيّ الآشوري والراوي بطبيعة الحال، ولكن الجامع بينها ليس أحوال الشخصية بذاتها وما يرافق الأمر عادةً في السرد الروائي، بل لإبراز الحال العامّة التي كانت مسيطرة في تلك المرحلة التاريخية من خلال حركة الشخصيات وعلاقاتها، ومن هنا يأخذنا النصّ إلى مدنٍ كثيرة، أوروبية وعربية، فيكون للمدينة الدور الأعمق.

مدن أوروبا، والتي على أرصفتها كان الشتات التي ذكره العنوان، كانت ملجأ المثقّف العربيّ الأخير، فنرى اختراقات الحدود بين مدن أوروبا والمدن العربية دائم، بوصف هذه المدن وتلك دوائر مكانية متقابلة ومتقاطبة، فتكون المدينة/العربية حيث أسباب الشتات، والمدينة الأوروبية حيث الشتات، لتشكّلا معًا الأزمة التي يعيشها المثقّف الذي يبحث دائمًا عن متنفّس ليعيش الحرية التي يحلم بها، ويحقّق الطموحات والآمال، ويبدأ التغيير الذي ثار من أجله، ليجد نفسه غريبًا في كلا المدينتين.

لقد مرّ النصّ على مدن عربية كثيرة، تونس وبغداد ودمشق وطرابلس...، زارها الراوي، عاقدًا الآمال على أن يجد ضالّته، يلتقي فيها بمن يتّفق معهم من "مثقّفي" ذلك الزمان، ولكنه يعود ويهرب منها مصدومًا بما آلت إليه تلك المدن التي اعتقد أنّ "ثورات فكرية وسياسية" حصلت فيها جعلتها كما كان الثوّار يبغونه، تلك المدن التي تحوّلت إلى مقابر للحريات والفكر والتغيير. حتّى بيروت، أو لبنان بشكل، والذي لم يزرها البطل، بل زارتها رنا لتلتحق بإحدى ميلشيات الحرب الأهلية، ظنًّا منها أنها ستضحّي من أجل تحرير فلسطين، صوّرها لنا النصّ بوصفها المدينة التي يقتل أهلها بعضهم على الهوية، وهي حقيقة تاريخية، عندما مرّت رنا وأهلها في إحدى مناطق الجبل.

ذكرت الرواية صدّام والعراق وغزو الكويت، ومرّت على ما أصاب الآشوريين هناك، ولكن المشهد الأبرز فيها هو عندما غيّر اسماعيل اسمه إلى "شموئيل"، حيث يوهمك الاسم بيهوديته، ليدافع شموئيل عن اسمه وتاريخه وحقّه، ويواجه الذين يسرقون أرضنا وحقّنا وتاريخنا، فيكون هذا المشهد هو الوحيد، الذي عبّر الكاتب من خلاله عن موقفه تجاه الكثير مما حصل، وما زال يحصل في بلادنا.

إنها رواية، أو "حكي" وبَوح، أو إنه كتاب من أدب الرحلة، أو هو كتاب مذكّرات، فكلّ الاحتمالات واردة، وكلّ التصنيفات تصحّ أن نحدّد معها جزءًا من الكتاب، ولكن الأهمّ هو أنها رواية "المكان"، حيث يتنقّل "البدويّ" فيها رحّالةً، ليستقرّ في ميونيخ أخيرًا، لينقل لنا مشاهداته، واصفًا المكان وتأثيره في الناس، وخصوصًا "المثقفين" العرب منهم، لتكون باريس ولندن ونيويورك سريعًا وغيرها من عواصم الغربة والشتات والمنفى، في مقابل عواصمنا المأزومة، ليقول لنا النصّ، إنّ المكان هو الأساس، وموقعية المكان على الخريطة هي الأساس، وتاريخ المكان هو الأساس، فلا مجال لراحة أو أزمة أو تطوّر أو انحدار، أو استمرار للأزمات والحروب، إلّا بسبب المكان، كيف لا، ونحن نرى الزمان قد تغيّر، ونرى عواصمنا ما زالت أزماتها تتكرّر وتعيد نفسها بمسميات جديدة، وعواصم الشتات ما زالت تزعم احتواءنا، وما زلنا "مشتتين على أرصفتها".

الأكثر قراءة

خاص "الديار": أول عملية استشهادية في الخيام ومعارك عنيفة مستمرة