اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

الصين تفرض قيوداً على تصدير بعض الأجهزة «أشباه الموصلات» الى لبنان

يُعدّ رأس المال واليد العاملة، العاملين الأساسيين في ضمان ديمومة النمو الإقتصادي. ومنذ أكثر من عقدّين تقريبًا، دخل عامل جديد تمثّل بالتطور التكنولوجي الذي إزدادت أهميته مع الوقت، إلى أن أصبح العنصر الرئيسي في تحديد مسار وإستدامة النمو الإقتصادي.

دخلت التكنولوجيا من بابها العريض في حياتنا اليومية، إلى أن أصبح إستهلاكها يتزامن والثواني التي تمرّ، إلى درجة أصبحت تؤمّن الرخاء الإجتماعي والفعّالية الإقتصادية، وصولًا إلى الأمن القومي. وتلعب صناعة «أشباه الموصلات» (Semiconductors) دور القوة الدافعة وراء الابتكارات التكنولوجية، مثل الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) والمركبات الكهربائية (Electric Vehicles) والأتمتة (Automation) وغيرها. وبالتالي أصبحت رقائق «أشباه الموصلات» تشكل العمود الفقري لجميع منتجات الإلكترونيات والتكنولوجيا في معظم القطاعات الاقتصادية، كالإتصالات والسيارات والفضاء والطاقة النظيفة، والتكنولوجيا الطبية، ومعدات الدفاع، والتعليم...

هيكلية السوق

البيانات التاريخية تُشير إلى أن حجم مبيعات «أشباه الموصلات» سيبلغ 588 مليار دولار أميركي في نهاية هذا العام، مع مُعدّل نمو سنوي يناهز الـ 4.5%. وعلى الرغم من المساهمة الصغيرة في الناتج المحلّي الإجمالي العالمي، إلا أن «أشباه الموصلات» تلعب دورًا أساسيًا في الصناعات المُتطورة، التي يبلغ حجم مبيعاتها تريليونات الدولارات!

دراسة هيكلية سوق «أشباه الموصلات» مُعقّد قليلًا، نظرًا إلى حيثيات هذا المجال. هناك عدّة زوايا يُمكن رؤية السوق منها. فمثلًا، أول خمس دول من ناحية إنتاج «أشباه الموصلات» هي: تايوان (50%)، كوريا الجنوبية (15%)، اليابان (13%)، الولايات المُتحدة الأميركية (12%) والصين (10%). إلا أن هذا الترتيب يتغيّر عندما نراه من زاوية قدرة التصنيع (رقائق مقاس 300 مم): كوريا الجنوبية (25%)، الصين (22%)، تايوان (22%)، اليابان (13%)، أميركا (8%)، أوروبا (6%) وجنوب شرق أسيا (4%).

من ناحية حجم التبادل التجاري لأجهزة «أشباه الموصلات»، تأتي الصين في المرتبة الأولى مع 45.1%، اليابان مع 6.34%، ماليزيا مع 5.94%، سنغافوراه 4.66%، تايبي مع 4.28%، كوريا الجنوبية 2.87%،...

إلا أن العنصر الأهم في هذا السوق – أي سوق «أشباه الموصلات» – يبقى بدون أدنى شك المعرفة (Know-How). فحتى مع كون «أشباه الموصلات» جزءًا لا يتجزأ من صناعات السيارات وعالم الحواسيب لعقود من الزمن، إلا أن السباق على هيمنة الذكاء الاصطناعي وانتقال المزيد والمزيد من البنية التحتية الرقمية إلى السحابة (Cloud)، أدى إلى تفاقم الحاجة إلى مراكز بيانات عالية السعة، وإنتاج الرقائق من قبل شركات )مثل Intel، Samsung، TSMC). وهذا نراه من خلال البيانات، حيث بلغ الإنفاق الرأسمالي في صناعة «أشباه الموصلات» العالمية 182 مليار دولار أميركي في العام 2022 ، مُقارنة بـ 60 في العام 2000، وإنخفض هذا الرقم في العام 2023 الى147 مليار دولار أميركي. أغلب الظن بسبب الحروب القائمة في العالم والمفاضلة التي على الدول القيام بها.

وتقول منظمة «أشباه الموصلات» SEMI، أن حوالي 70 في المائة من إجمالي القدرة التصنيعية تقع في كوريا الجنوبية وتايوان والصين، مع احتلال الأميركتين المرتبة الخامسة بعد اليابان، التي استحوذت على حصة 13 في المائة في عام 2022. وكانت الولايات المتحدة تغطي 37 في المائة من قدرة التصنيع في عام 1990، أوروبا 44% واليابان 19%. الجدير ذكره أنه حتى مع تولي الشركات الأميركية حاليًا زمام المبادرة في حصة الإيرادات العالمية، إلا أن الولايات المُتحدة الأميركية تفتقر إلى القدرة الإنتاجية.

السباق بين الإقتصادات الكبرى

الدول تعلم جيدًا أهمّية «أشباه الموصلات» في التطور الإقتصادي الحالي والمُستقبلي، وتحديدًا في السباق الحاصل بين الإقتصادات الكبرى، أو الصراع القائم على إمتلاك تقنيات عسكرية أو سيبرانية تستخدم «أشباه الموصلات» ولها قدرة على تغيير موازين القوى العالمية. من هذا المُنطلق تسعى بعض الحكومات، التي تدرك منذ فترة طويلة الأهمية الاستراتيجية للرقائق، دعم الشركات المصنعة. وقد بدأت دول مثل ماليزيا والهند وفيتنام في استخدام نهج ثلاثي الأبعاد لجذب الاستثمار: إقامة تحالفات تكنولوجية مع الولايات المتحدة، ونقل المعرفة من صانعي الرقائق العالميين وتقديم الدعم. وهذا ما دفع إلى إرتفاع المنافسة العالمية اليوم لدعم صناعة الرقائق، وإستطرادًا إرتفاع النمو السريع لسوق الرقائق.

ويُمكن تلخيص المشهد اليوم على النحو التالي: أكثر من نصف سوق رقائق «أشباه الموصلات» هو في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. أمّا الصين فتبقى أكبر مُستهلك للرقائق وأكبر مُنتج للجاليوم والجرمانيوم، وهي العناصر المستخدمة في إنتاج الرقائق. أمّا أميركا الشمالية فهي أيضًا من المناطق المُهمّة في سوق الرقائق، وتمثل 25% من إجمالي الطلب على الرقائق، مع إنخفاض قدرتها على إنتاج الرقائق من 37% في التسعينيات إلى 12% حاليًا.

الصراع على صناعة الرقائق أخذت أبعادًا أخرى، حيث تخشى الولايات المُتحدة الأميركية على أمنها القومي من التقدّم الأصفر. وخلطت مطالبة الصين بجزيرة تايوان، حيث تُسيطر شركة TSMC (أكبر شركة «أشباه موصلات» في العالم)، الأوراق من جديد. فقد أقرّت إدارة الرئيس بايدن قانون الرقائق والعلوم في آب 2022 (CHIPS and Science Act) ، بهدف إستعادة جزء من هيمنتها الصناعية السابقة، خصوصًا مع المنافسة الشرسة من قبل الصين. وخصصت حوالي 280 مليار دولار لدعم صناعة الرقائق «المتأخرة»من حيث البحث والإنتاج (مُقارنة بـ 50 مليار دولار أميركي خصصتها الصين لدعم القطاع).

لبنان يستورد بهدف الإستهلاك فقط

وفي لبنان، بلغ حجم الإستيراد من أجهزة «أشباه الموصلات» ما يوازي 355 مليون دولار أميركي في العام 2022 ، مُقارنة بـ 2.9 مليون دولار أميركي تصدير. وإذا كانت حاجة الدول الكبرى والنقص في سلاسل التوريد ناتج عن الحاجة في التصنيع في هذه الدول مما يجعل الإستيراد أعلى من التصدير، نرى أن لبنان يستورد بهدف الإستهلاك فقط لا غير. وما التصدير المُسجّل في السجلات الرسمية المحلية والدولية، إلا لإعادة التصدير الذي يقوم به التجار إلى دولٍ إقليمية أخرى بهدف الربحية.

وبالتالي، يُمكن الإستنتاج أن لبنان يقف مُتفرجًا أمام المنافسة الدولية التي تحتدم يومًا بعد يوم. لا بل أكثر من ذلك، أصبح لبنان يخضع لقيود على الإستيراد نتيجة الحظر الدولي الآتي من الغرب، ولكن أيضًا من الشرق. فحديثًا أخذت الصين قرارًا بمنع تصدير بعض أنواع أجهزة «أشباه الموصلات» إلى الشركات اللبنانية التي تتعامل مع بعض المؤسسات التابعة للدولة اللبنانية. وهو ما يعني أن لبنان على عكس بعض الدول التي توازيه من ناحية الحجم، والتي تتواجد في المراكز الأولى في هذا السوق، أصبح عرضة للعقوبات وقيود على إستخدامه بعض الأجهزة المُتقدّمة. وهذا إن دلّ على شيء يدل على التهاوي في فعّالية السياسات الإقتصادية، وغياب التخطيط طويل الآمد للحكومات المُتعاقبة.