اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

للمرة الأولى سوف يتاح لقراء التركية الاطلاع على تجربة الشاعر العربي الأشهر، بل الأعظم في نظر الكثيرين، أبي الطيب المتنبي، بصورة جديدة تختلف كل الاختلاف عن صورته النمطية المستقرة عندهم، في مختارات صدرت حديثا عن "دار إفرست للنشر" تحت عنوان "أغنية الإنسان"، بتوقيع المترجم التركي الشهير البروفسور محمد حقي صوتشين.

يخبرنا صوتشين في مقدمة المختارات أن علاقته بهذا الشاعر العربي المتفرد، لم تكن تختلف عن علاقة أي مثقف أو دارس تركي يرى في المتنبي محض مدّعٍ للنبوة، أو شاعر بلاط، لكنه حين زار سورية قبل كارثة العام 2011، وتحديدا مدينة معرة النعمان، للمشاركة في إحياء ذكرى الشاعر أبي العلاء المعري، دهش من فتى في الثالثة عشرة من عمره يستظهر قصائد للمتنبي عن ظهر قلب، أضيف إلى ذلك استماعه إلى قصائد مغناة من أشعار "مالئ الدنيا وشاغل الناس"، ومعارضات لقصائده من شعراء عديدين. وربما خُيِّل إليه لحظتها أن المتنبي سرق الأضواء من أبي العلاء في احتفاليته، فبدأ يعيد النظر منذ تلك اللحظة بصورة الشاعر النمطية المنتقلة إليه من أساتذته الجامعيين.

شروح المتنبي

لا يغفل مترجمنا المراجع العديدة التي شرحت قصائد المتنبي، كشرح الواحدي، وشرح أبي العلاء المعري المسمى بـ"معجز أحمد"، وشرح أبي البقاء العكبري المسمى "التبيان في شرح الديوان"، وشرح ناصيف اليازجي، المسمى "العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب". وقد وصف شرح الواحدي بأنه "أكاديمي"، في الوقت الذي يرى في شرح أبي العلاء شرحا "شاعريا"، وفي شرح العكبري مقاربة موسوعية.

يؤمن صوتشين بأن المتنبي واحد من أعظم "حداثيي" عصره، فقد غيّر مجرى الأنواع الشعرية السائدة في زمنه، مثل الفخر والرثاء والنسيب، وأضفى أبعادا وجودية يقوم من خلالها بإعادة تكوين ذاته، وينظر إلى الموت نظرة تهكم وسخرية تعكس عبثية العلاقة بين الحياة والموت، الأمر الذي لا نراه في الرثاء الذي سبقه. ويلفت نظر صوتشين البعد السينمائي التصويري لرثائه جدّته في وقت لم يكن هنالك سينما، حيث وصف حالة الجدّة وهي تتسلم رسالة من حفيدها، فتتفحصها بعيون فضولية كأنها ترى غربانا عُصما في سطور الرسالة وحروفها، فتقبّل حبر الرسالة الذي يلطخ محجري عينيها وأسنانها بلونه الأسود.

وكأن صوتشين يقدم دفاعا عن المتنبي أمام محكمة الجمهور التركي، فيسهب في توضيح تفاصيل العلاقة التي ربطت بين سيف الدولة والمتنبي من جهة، والمتنبي ونخبة المثقفين في قصر سيف الدولة، وقصصهم المعروفة التي ترمي إلى الحطّ من شأنه أمام سيف الدولة من جهة أخرى. كما يستطرد في الحديث عن أسفاره إلى بلاط كافور الإخشيدي في مصر، ثم إلى بلاط البويهيين في إيران الحالية، وما جرى له في هذه الأسفار التي كان يثار حولها الكثير من الجدال واللغط والأحكام المسبقة.

تأثيرات في الإيرانيين والترك

ولا ينسى أن يشير في مقدمته إلى أن معرفة الإيرانيين بالمتنبي تتجاوز بما لا يقاس معرفة الأتراك له، فقد أصبح جزءا من التراث الثقافي للشعراء الذين اتبعوا التقاليد الأدبية الفارسية. ويذكِّر بمعلومات أوردها الباحث الإيراني علي أصغر محمد هاني حول وجود 100 رسالة أكاديمية، و20 كتابا، و60 مقالا يقارَن فيها المتنبي بالشعراء الإيرانيين. وثمة باحثون يتحدثون عن تأثير المتنبي في سعدي الشيرازي، مدعّمين حديثهم باستشهادات لافتة، ومن ذلك طريقة سعدي البارعة في صياغة الأمثال التي جرت على ألسن العامة كما هي الحال مع المتنبي.

وفي ما يخص الأدب التركي، يرى صوتشين أن تأثير المتنبي في بعض الشعراء واضح، مثل الشاعر نفعي الذي يشبه نفسه بالأنبياء في بعض قصائده، إضافة إلى وجود تأثيرات ما في الشاعر باقي. وفي حديث سابق يذكر مترجمنا أنه دعي مع زميله الألماني شتيفان فايدنر إلى مركز الملك عبد العزيز العالمي (إثراء)، لمناسبة اليوم العالمي للشعر، للحديث عن تأثير المتنبي في الشعر خارج العالم العربي، حيث قرأ نماذج من قصائد الشاعر نفعي بترجمته إلى اللغة العربية، عندئذ همس البعض قائلين: "نعم، هذا صوت المتنبي".

وبحكم معرفته العميقة بالشعر العربي المعاصر، يرصد صوتشين بحذاقة تأثيرات المتنبي في الشعراء العرب، وعلى وجه الخصوص شعراء مدرسة الإحياء، وأمل دنقل، وعبد الوهاب البياتي، وأدونيس، والجواهري، وخليل حاوي، وعمر أبي ريشة، والأخطل الصغير.

وفي نهاية تقديمه يقول صوتشين: "باختصار، فإن شعر أبي الطيب المتنبي هو أغنية الإنسان على مرّ العصور، حيث تتغير الأعمار والأشخاص والقصائد، لكن الأغنية تظل دائما كما هي. فأبو الطيب المتنبي بالنسبة الى العرب هو ما يمثله دانتي أليغييري للإيطاليين، ووليام شكسبير للبريطانيين، وغوته للألمان، وفيكتور هوغو للفرنسيين"، منوها باستفادته من اختيارات أدونيس للمتنبي في "الدهر المنشد". 

الأكثر قراءة

«اسرائيل» تواصل التهويل: انسحاب حزب الله او الحرب الشاملة تعديلات بالشكل لا بمضمون «الورقة الفرنسية» لا بروفيه وامتحان موحد لـ«الثانوية»