اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

بلورت العلاقات السوفياتية/ الروسية - السورية على مر تاريخها منذ العام 1944، الذي شهد اعتراف الإتحاد السوفياتي باستقلال سوريا، نموذجا جيدا وفاعلا لتلك العلاقات، التي يمكن لها أن تقوم ما بين دولة متوسطة الحجم والقدرات، وبين دولة عظمى كانت تؤدي حتى العام 1989 دور القطب الثاني في النظام الدولي، الذي حل في أعقاب وضع الحرب العالمية الثانية لأوزارها عام 1945 .

وعلى مدى سبعين عاما امتدت ما بين 1944 - 2014  استطاعت دمشق أن تحافظ على نوع من استقلالية القرار، حيال حليف كان يشكل مصدر إسناد أول لجيشها بالسلاح والعتاد، بالرغم من الحمولات التي يفرضها هكذا أمر على أي كيان أو منظومة، ويشكل أيضا « مظلة» سياسية يمكن لها أن تقي من « حرارة» اللهيب، الناجم عن محاولات اقتحام» الحصن» الدمشقي، الذي شكل بعد اتفاقات» كامب ديفيد» 1977 و 1979، عقبة في وجه مشاريع ومخططات، ظلت تراوح في مكانها لعقود بمفاعيل عديدة، كان من أبرزها الرفض السوري لمهر توقيعه عليها .

لكن من المؤكد أن ثمة تحولات كانت قد جرت على تلك العلاقة ما بعد أيلول 2015، الذي شهد انطلاق عملية» عاصفة السوخوي» الروسية في سوريا، و هي في المجمل كانت من النوع « الخادش» لاستقلالية القرار، وصولا إلى « الإطباق» عليه تماما، حتى بات ورقة مساومة بيد موسكو، تعرضها متى وكيفما تشاء، والشاهد هو أن نظام بشار الأسد ما كان له أن يسقط، لولا قرار موسكو بعرض» الورقة» في سوق التداول الدولي .

فرض الإسناد الروسي لنظام الأسد حالا من» الجفاء» المبرر بين موسكو وبين دمشق- الشرع، وعلى الرغم من المحاولات الروسية المتعددة لكسر تلك الحال، فإن القيادة السورية ظلت تتمترس عند هذه الأخيرة بمفاعيل عديدة، أبرزها الضغوط الغربية والأوروبية على وجه التحديد، التي كانت تجهد لإخراج موسكو من المنطقة، الأمر الذي يساعد في كبح الجماح الروسي الماضي في تمدده الأوكراني نحو خلق توازنات في القارة العجوز تختلف جذريا عن تلك التي كانت سائدة منذ العام 1991، ومنها الآثار التي يمكن للتقارب مع موسكو أن يخلفها على حاضنة النظام الراهن، التي تكيل لها اتهامات تبدأ عند محاولة الإبقاء على جروحها نازفة، ولا تنتهي عند القيام بأعمال القتل وارتكاب» المجازر» ضد المدنيين.

ولذا فإن محاولات» كسر الجليد» المتراكم على طريق موسكو - دمشق لم تنجح في غضون الأشهر السبعة المنصرمة، بدءا من زيارة نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف لدمشق أواخر شهر كانون ثاني المنصرم، مرورا بمخابرة الرئيس الروسي لنظيره السوري في 12 شباط الفائت، والتي تضمنت» تهنئته» باستلام « مهام الرئاسة في سوريا»، وفقا لما ذكرته وكالة» سانا» الرسمية، ثم وصولا إلى دعوة وزير الخارجية الروسي لنظيره السوري في شهر أيار الفائت لزيارة موسكو، الأمر الذي تجاهلته القيادة السورية، قبل أن تقرر تغيير مواقفها على بعد نحو ثلاثة أشهر من الدعوة . فما الذي تغير حتى قررت دمشق تنفيذ هذا « الإنزال» السياسي - العسكري - الأمني على موسكو ؟

الراجح هو أن المياه الراكدة كانت قد تحركت بمفاعيل «اسرائيلية»- تركية، من دون أن يعني الأمر وجود تنسيق ثنائي بهدف تحريكها، لكن تقاطع الأهداف عن بُعد يبدو ملحوظا بين الطرفين، وهذا ما يبرزه توقيت» الإنزال» الذي حدث قبيل اجتماعين، هما على درجة عالية من الأهمية بالنسبة لدمشق، وكذلك بالنسبة لـ«تل أبيب» وأنقرة كل على حدى:

- الأول هو الاجتماع الذي ستحتضنه العاصمة الإذربيجانية باكو، والذي سيضم وزير الخارجية السوري إلى وزير الشؤون الاستراتيجية «الإسرائيلي» رون ديرمر، وهو يمثل حلقة في سلسلة اجتماعات كانت قد تناوبت باكو مع باريس على استضافة طرفيها، بغرض التوصل إلى اتفاق أمني نهائي، يكون من شأنه تهدئة المخاوف السورية، التي كانت قد بلغت ذروتها منتصف شهر تموز الفائت، عندما وصلت النار «الإسرائيلية» حدودا غير مسبوقة في تاريخ الصراع بين البلدين .

- الثاني الذي سيجمع ما بين حكومة دمشق وقيادة» قوات سوريا الديمقراطية - قسد»، والرامي الى إيجاد الآليات المرضية للطرفين، لتنفيذ اتفاق» 10 آذار» الموقع ما بين الشرع ومظلوم عبدي، والمرجح هو أن الثنائي المحرك للمياه الراكدة، كان قد وجد في تفعيل الدور الروسي الذي يمكن له تذليل بعض العقبات في تلك المحطتين، أمرا لا ضير فيه حتى ولو قاد الأمر في النهاية إلى إعادة بعض الزخم للدور الروسي، وهو الأمر الذي افتقده هذا الأخير بفعل «زلزال» 8 كانون الاول المنصرم .

فموسكو الراغبة في الحفاظ على موطئ قدم في مياه المتوسط الدافئة، ترتبط بعلاقة وثيقة مع «تل أبيب»، والمؤكد أن محطة 8 كانون الاول كانت قد عززت «المعزز» بين الاثنين، وهذا مفيد لحلحلة الخلاف حول الترتيبات الأمنية بين دمشق و «تل أبيب»، والعلاقة مع «قسد» كانت قد تعززت أيضا ما بعد الأسد، عبر إنشاء قاعدة» القامشلي» العسكرية، التي رأى فيها العديد على أنها بديل حاضر لـ «حميميم»، في حال انتفت شروط بقائها، وهذا يساعد أنقرة في حلحلة المواقف الكردية، التي تحار اليوم على أي أرضية يجب أن تقف .

دمشق الحائرة في خضم تلاطم الأمواج المحيطة بسفينتها من كل حدب وصوب، والتي ينقصها « الحليف» الموثوق به، إذ لطالما كان من المؤكد هو ان الولايات المتحدة لا تستطيع لاعتبارات عديدة احتلال ذلك الموقع، وجل ما تريده أمران: أمن «اسرائيل»، ثم المضي في تشبيكات اقتصادية واستثمارية تكون خادمة في النهاية لذاك الأمن . ولربما ارتأت دمشق أن العمل على تثقيل الدور الروسي وفق الضوابط المتاحة، أمر قد يخفف من الضغوط الواقعة عليها عشية استحقاقين كبيرين : أولاهما اللقاء الذي سيجمع ما بين الشرع ونظيره الأميركي في واشنطن في شهر أيلول المقبل، والذي من المقدر له أن يفضي إلى توقيع» الإتفاق الأمني الدائم بين دمشق و»تل أبيب» .

وثانيهما اللقاء الذي سيجمع ما بين الشرع أيضا وفلاديمير بوتين في شهر تشرين الأول المقبل في موسكو على هامش القمة الروسية - العربية، والذي من المتوقع أن يفضي إلى توقيع اتفاق من شأنه تحديد طبيعة الوجود العسكري الروسي في سوريا، والذي لا يزال تصنيفه حتى الآن على انه الوحيد الشرعي في سوريا، وحجمه، ثم الأدوار المنوطة به، خصوصا أن موسكو دفعت في شهر آذار الفائت ببادرة «حسن نية»، عندما انكفأت قواتها المرابطة في الساحل عن القيام بأي دور، حتى ولو كان يندرج في إطار « فض النزاع»، أو محاولة إطفاء النار التي امتدت لأربعة أيام، فيما تباشيرها كانت تشير إلى إمكان تمديد إقامتها لفترات أطول . ثم ماذا ينفع دوام « الحقد» الذي سبق لفلاديمير لينين، زعيم الثورة السوفياتية، أن وصفه على أنه» أسوأ موجه في السياسة»؟  

الأكثر قراءة

جهد رئاسي للوصول الى صيغة توافقيّة لحصريّة السلاح... وإلّا المجهول؟ حزب الله يزور عون في الرابية الاثنين... ولقاء قريب مع جنبلاط الانتخابات النيابيّة مفصليّة: الحريريّون باشروا التحضيرات... وتحالف «الاشتراكي» و«القوات»