اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


يعيش المثقف في لبنان إشكالية العلاقة مع السلطة، ويعيش إشكالية العلاقة مع الأحزاب التغييرية على اختلاف عقائدها وغاياتها، والتي نستطيع ان نصنفها بمستويات عديدة منها المتلبننة والمستعربة والمتمركسة والمتسرينة. والتي تعيش أيضا إشكالية العلاقة مع السلطة، فهي تارة تغييرية وتارة إصلاحية، دون أن ننسى أن في عمق معظم المثقفين طفل متدين أكثر الأحيان طائفي يتوق الى الظهور عند كل حدث مصيري خطير. قلة هم الذين عبروا عتبة الطوائف الى رحاب الوطن بشكل حقيقي. ولكن هذه القِلّة كانت نقطة الارتكاز في بعث الثقافة الوطنية والقومية.

لا شك ان المثقفين خاضوا تجربة حقيقية في الأحزاب وأرادوا منها أن تكون جسر العبور الى التغيير، لأن المثقف الوطني والقومي لا يمكن له أن يكون إصلاحيا لأن الموجود لا يقبل الترميم ولا التلميع، وكان لهم بصمات في أحزابهم لكنهم لمجموعة من العوامل فشلوا في التأثير في المسار السياسي لهذه الأحزاب فتراجعوا الى الوراء ومنهم من خرج وبقي على ايمانه يغرد من خارج المنظومة الحزبية ومنهم من خاب أمله واعتكف، ومنهم من استحضر الجنين الطائفي وعاد الى الوراء سالكا طريق الوصول الى نيل الألقاب من السلطة والنوادي والجمعيات التي تدور في فلك السلطة.

أضاعت الأحزاب وخاصة الحزب السوري القومي الاجتماعي فرصة ذهبية لبعث نهضة تغييرية في سورية الطبيعية عندما فشلت في صياغة علاقة جدية تفاعلية مع رموز الحداثة في الأدب في منتصف الخمسينات.

الصدفة جعلت من لبنان نقطة انطلاق وميدان نضال، حيث أصبح مركزا رئيسيا للحزب السوري القومي الاجتماعي ونقطة جذب لرواد الحداثة في لبنان والشام والعراق وفلسطين الذين أطلقوا مجلة شعر التي كانت نقطة الانطلاق للحداثة ونقطة جذب لمعظم الشعراء والأدباء الذين اصبحوا فيما بعد ليس رواد الحداثة فقط بل مفاتيح الدخول الى الابداع الأدبي لكل راغب ومن يشعر بأنه يتمتع بملكة الإبداع، ويكفي أن نذكر منهم على سبيل المثال ودون ذكر الألقاب يوسف الخال، أدونيس، محمد الماغوط، شوقي أبو شقرا، أنسي الحاج، معين بسيسو وبدر شاكر السياب....، فإن معظم هؤلاء الشعراء والأدباء وغيرهم من الذين لم نذكر أسماءهم كانوا قوميين اجتماعيين أو يدورون في فلك الفلسفة السورية القومية الاجتماعية.

فشلت قيادة الحزب السياسية في بناء جسر التواصل معهم ومع غيرهم من المثقفين، ويومها لم يكن واحد منهم طامعا بالسلطة ونيل اللقب، والدليل أنه لم يصل أحدهم اليها ولم ينل رتبة تمنحها سلطات الكيانات.

نعم فرصة ذهبية أضاعها الحزب السوري القومي الاجتماعي لأنها كانت أقصر الطرق لتحقيق الغاية الأولية للحزب التي هي غاية الوصول الى الشعب، فالأدباء والشعراء وأصحاب الاختصاصات العلمية هم مفاتيح الوصول الى الشعب لأنهم القادرون على التعبير عن إرادة الشعب وتحقيق مصالحه النفسية والاقتصادية.

راهن سعادة على الوعي القومي وفهم غاية الحزب في إنشاء الأدب القومي الذي سيواجه التحويرات الشكلية والظاهرية، وجاءت الفرصة بعد استشهاده، ولكن أظهرت قيادات الحزب السياسية أن صدرها يضيق بالإبداع الأدبي والعلمي والمبدعين.

غاب عمالقة الحداثة ولم يبق منهم سوى أدونيس وخالدة سعيد الغائبة عن الإنتاج الأدبي والشعري، غابوا دون ورثة يكملون الطريق الذي شقته الحداثة، غابوا وتركوا فراغا يزعم كثيرون القدرة على تغطيته لكننا حتى اللحظة لم نر نص الحداثة الجديد القادر على التعبير عن إرادة الشعب ومصالحه الاقتصادية والنفسية، لم نعد نقرأ النص الإبداعي الذي ينتشر بين صفوف الناس كانتشار النار في الهشيم. هذه الحال تطرح إشكالية كبيرة تقول: هل نحن فقدنا النص المُعبّر عن إرادة الناس والذي يفلت من الزمان والمكان ويعبّر عن حقيقة ما يجب ان نكون اليوم وغدا؟

نحن نفتقد اليوم وجود تيار ثقافي تبعث نصوصه نهضة في الأمة، تكون نصوصه عابرة للطوائف والمذاهب والكيانات، نحن نفتقد الوعي الذي يُنتج أدبا وفكرا عابرا للحواجز، نحن نفتقد فهم الغاية التي تدفعنا لنرسم الأهداف القريبة والأهداف البعيدة ونسير الى تحقيقها بعقلية واحدة، وروحية مستمدة من تاريخ الأمة.

لقد تغلب النص الطائفي والمذهبي على النص الوطني والقومي، وتراجع النص الوطني والقومي من مرتبة الصدارة والقيادة الى المرتبة الخلفية وصار يحيا في حماية النص الطائفي والكياني، وهذه نتيجة طبيعية لواقع البلاد التربوي حيث أصبح لكل طائفة مدارسها وجامعاتها ومراكزها الثقافية والفكرية ومراكز الدراسات وسلسلة الخدمات المادية والصحية والتربوية. والذي ساهم بتراجع فاعلية النص الوطني والقومي أن الأحزاب الوطنية والقومية تعيش على موائد التنظيمات الطائفية والكيانية وتستمد قوتها منها مما أفقدها ضرورة وجودها.

يقول أنطون سعادة: إن نظامنا يرمي إلى صهر التقاليد المنافية لوحدة الأمة، وجعل الأمة وحدة حياة، وحدة مقاصد ووحدة مصير.

لا يمكن للنظام أن يصهر التقاليد المنافية لوحدة الأمة وجعلها وحدة حياة، وحدة مقاصد، ووحدة مصير، والتنظيم يستمد قوته من القوى المعطلة لوحدة الأمة ورقيها. وبالتالي تكون القوى الحزبية ساهمت في خفت صوت النصوص الوطنية والقومية بعلمها أو بجهلها.

يوجد نصوص وطنية وقومية راقية قادرة على اختراق الحواجز وعابرة للطوائف والمذاهب والكيانات لكنها لم تحظ بنعمة الانتشار لأنها شخصية وفردية، وحتى لو أنها كانت صادرة عن مثقفين في تنظيمات حزبية فستبقى محصورة بدائرة ضيقة لأنها تستمد قوة انتشارها من قوة المؤسسات الحزبية التي وقّعت عقد إيجار مع التنظيمات والكيانات الطائفية.

نحن لا ندعو الى المقاطعة ولا الى العدائية نحن نقول بشرعية الخصومة واستقلالية الحركة وعدم استمداد القوة من الطوائف والمذاهب وتنشيط حركة الصراع الفكري.


الأكثر قراءة

كيف منعت إيران الحرب ضدّ لبنان؟