اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


لم تكن الحرب على فلسطين بعد طوفان الأقصى من أجل هزيمة المقاومة، أو لتثأر لجنود ماتوا في هجوم طوفان الأقصى ولا لإعادة هيبتها ولا ردة فعل على فعل أصاب العدو بمقتل، بل هي حرب إبادة الشعب الفلسطيني. لم يعد معيار النصر والهزيمة النصر العسكري فقط بل أصبحت كفتي ميزان النصر والخسارة الإبادة والبقاء. فما تفعله الولايات المتحدة الأميركية ليس دعما لدولة العدو كي تنتصر على المقاومة في الحرب، بل عملا إجراميا الغاية منه إبادة الشعب الفلسطيني، فالإبادة تحقق الهزيمة العسكرية الأكيدة، وتكون الممر الى تأكيد يهودية الدولة التي تسعى الولايات المتحدة الأميركية الى إنجازها في فلسطين، والتي على أساسها يبدأ التنظير للديانة الابراهيمية الجامعة لكل الأديان في دين إبراهيم اليهودي، فيهون على أمريكا انشاء الشرق الأوسط الجديد المحكوم بإرادة الدولة اليهودية والذي يعيد الى أمريكا دورها في العالم العربي وفي مواجهة المشروع الروسي والمشروع الصيني في المنطقة بعد أن أصبح مهددا بالرحيل.

أثبت العمر الزمني لدولة العدو في فلسطين عدم قدرتها على تهويد الشعب الفلسطيني وأثبت فشل المراهنة على عامل الزمن لترويض الشعب الفلسطيني، فأجيال حقبة الاحتلال أشّد انتماء وتعلقا بالهوية الفلسطينية وأشد شراسة بقتال الاحتلال وأشد تمسكا بالأرض والتاريخ والتراث.

وأثبت أيضا أن النزوح واللجوء والانتشار على مساحة الكرة الأرضية لم يلغ الهوية الفلسطينية ولم يقض على الشعور بضرورة العودة الى فلسطين، وأن تراكم رأس المال والحصول على مراتب عليا في دول اللجوء والجلوس على كراسي المراكز العلمية في أعظم الجامعات والمؤسسات الثقافية والإقتصادية لم يمنع الفلسطيني من تجيير نجاحه في العالم لخدمة القضية الفلسطينية.

تعلم الولايات المتحدة جيدا أنها عاجزة عن صيانة دولة العدو وحمايتها، وعاجزة عن تأمين الأمن والأمان للمستوطن بكل أنواعه طالما المواطن الفلسطيني على قيد الحياة وطالما المواطن السوري قادر على المقاومة والهجوم، وتعلم أن ما مضى من عمر الاحتلال أكد ان هذه الولاية الأميركية المسماة "دولة إسرائيل" عاجزة عن البقاء الاستمرار حتى لو جيّرت لها اميركا كامل ميزانيتها، وأن مال الدنيا لا يكفي لصيانة هذه الدولة المصطنعة غير الشرعية المولودة من رحم المجازر، والمراهنة على تعب الشعب الفلسطيني والأمة السورية خاسرة، لذلك اتعظت من العمر الزمني الذي مضى وهي تريد نقل التجربة الأوروبية مع الهنود الحمر في القارة الأمريكية الى فلسطين أولا ومن ثم تعميمها حيث يكون لأمريكا مصلحة.

إن ما يحصل في فلسطين لا مثيل له في التاريخ المعاصر، فحرب الإبادة لا ترتكبها أمريكا بمفردها بل يرتكبها العالم بأسره حتى أولئك الذين يزعمون أنهم يساندون القضية الفلسطينية هم في الحقيقة شهود زور لأنهم حتى اللحظة لم يعملوا بشكل جدي على وقف حرب الإبادة، ويكتفون بالشجب والاستنكار والتهديد والوعيد، نعم كلهم شركاء، فالحيادي شريك في ارتكاب الجريمة لأنه لم يسع الى منعها.

إن ما يحصل في فلسطين وفي الامة السورية بشكل عام صورة تعكس المستوى الثقافي والأخلاقي الذي يسود العالم في هذا العصر، وما شهدناه من مسيرات تضامن وتأييد للشعب الفلسطيني واستنكار للمجزرة اليهودية بحق شعبنا لم يكن سوى ردة فعل أولية على صور البشاعة التي أوصلتها وسائل الإعلام الى كل مواطن في العالم، لكن لم يكن له أي تأثير على سياسات الدول ومواقفها، وتراجع وانتهى حين بدأ يكون الحدث الفلسطيني حدثا روتينيا مهما بلعت قساوة صور المجازر، ونحن لا نرى اليوم تحركا ضاغطا على الأنظمة مع أنه لم يتوقف العدو عن ارتكاب المجازر بل زاد في همجيته ووحشيته. انها ردّة الفعل الأولية المحكومة بالمشاعر التي سرعان ما تذهب حين يبدأ عمل العقل، كثر هم الذين راهنوا على المظاهرات وحالات الاستنكار واعتبروا أنها بداية تغيير في مزاج الشعوب في العالم، لكن بعد مضي مئتي يوم على حرب الإبادة عاد مزاج الشعوب ليتوافق مع مزاج الأنظمة والدول ومواقفها الداعمة لدولة العدو. لذلك قلنا لا يمكن المراهنة على أمزجة الشعوب طالما نحن لا نملك خطة الاستفادة من هذا الحراك ولم نفكر بكيفية دعمه وتحويل ردة الفعل الأولية الى مزاج دائم يتحكم العقل بحركته، ولم نسع يوما الى إنشاء مؤسسات ومراكز دراسات تهتم بدراسة أمزجة الشعوب وتوجيهها باتجاهات تخدم مصالحنا وأهدافنا التي تحقق وجود عالم جديد يقوم على القيم الأخلاقية ويسوده صراع المصالح الذي يقوم على فكرة تحقيقها من دون اللجوء الى حروب المجازر البشعة وحروب الإبادة المُستنكرة.

مضى مئتا يوم على طوفان فلسطين ولم تتحرك قشة من مكانها في العالم، أصبحت غزة سهلا مسطّحا، غابت عنه الأبنية والمنازل والخيم، اختفت الشوارع والزواريب والأزقة والساحات وكل وسائل التواصل الطبيعية، أختفت الحياة الطبيعية. عندما تُحاصر غزة ويُقطع عنها المواد الغذائية والماء وكل متطلبات الحياة تكون غاية الحصار الإبادة والقضاء على الشعب الفلسطيني . عندما تُرتكب المجازر بحق الأطفال طيلة مئتي يوم، ويفتخر الجنود بأنهم يقتلون الأطفال ويرقصون على جثثهم، ويتقصدون التصوير وتوزيع الصور على الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي تكون الحرب علينا حرب إبادة برعاية دولية. لا يمر يوم دون ارتكاب مجزرة بحق المدنيين، وخاصة الأطفال والنساء وتُنشر صورها ويراها العالم كله ولا تتحرك قشة من مكانها، لا يمر يوم دون حدث تقشعر له الأبدان، وترتجف من هوله الأعصاب ويمر مرورا عابرا في وسائل الاعلام العالمية دون أن نرى ردّات فعل غاضبة تسعى لتغيير الأنظمة والدول.

مضى مئتا يوم على طوفان فلسطين وفلسطين غارقة بطوفان الدم والجثث غارقة بلهيب النار الحارقة التي لا تترك سوى الرماد، وفلسطين جبل من نار يتطاير الشرار منه ليصل الى الأمة والعالم كله، كان تظن الولايات المتحدة ومعها الغرب أنهم يستطيعون ارتكاب جريمتهم في العتمة وراء الضوء وبفترة زمنية قصيرة، راهنوا على ضخامة النار والصوت وفظاعة الصورة راهنوا على التخويف والتهديد وإبراز صورة المجازر على الاستسلام قبل الهروب لأنهم كانوا يخططون لارتكاب المجازر بالآلاف في لحظات الاستسلام وفاتهم أن من حمل طغيانهم أكثر من نصف قرن أصبح يعرفهم ولا يستسلم لهم، فاتهم أن شعبنا يختار الاستشهاد على الاستسلام حين يكون الأمر يتعلق بالوطن والأمة، وأننا أمة عاصية على الموت والاندثار ولو لم تكن تحمل مناعة ضد الموت، كانت أنهتها الخلافة العثمانية التي استمرت في استعباد شعبنا لأكثر من أربعمئة عام.

العدو يعيش في أجواء السؤال ماذا بعد طوفان فلسطين وهو يخاف الانزلاق نحو المقبرة ونحن نعيش أجواء السؤال ماذا بعد وقف الحرب ونخاف أن لا يكون طوفان فلسطين أحدث خللا كبيرا في أنظمة كيانات العالم العربي.

الأكثر قراءة

عمليات اسرائيلية مكثفة في رفح والاستعدادات لحرب موسعة تتواصل! التيار والقوات في سجال «الوقت الضائع»