اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

أمام عجز السلطة السياسية عن إقرار الإصلاحات المالية والإقتصادية، وأمام عدم إحتمال إقرارها في ظل الجو السياسي والعسكري القائم حاليًا، يفقد المودع يوما بعد يوم ثقته بإستعادة ودائعه، كما أن المُستثمرين أصبحوا يُفضّلون الدول المُجاورة بسبب مناخ الأعمال القائم، والذي يُصنّف أفضل من مناخ الأعمال القائم في لبنان، حيث يكفي النظر إلى التعامل بـ «الكاش» لمعرفة مخاوف المُستثمرين الأجانب، الذين قدّ يُتهمون يوما بعمليات مشبوهة من قبل سلطات بلادهم في حال إستثمروا في لبنان.

وبالتالي هناك سؤال جوهري يطرحه المواطن: هل سنبقى في هذه الحال وإلى متى؟

الجميع يعلم أن عقدة الأمور ليست فقط محلّية، بل هي أيضا نتاج صراع إقليمي – إقليمي وإقليمي – دولي، مُضاف إلى إرتكابات طالت مالية الدولة. وبالتالي، لا يملك أصحاب القرار في لبنان القدرة على البت في المشاكل العالقة حاليا، وعلى رأسها بالطبع إنتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة، والقيام بإصلاحات إقتصادية ومالية وقضائية وإدارية. هذا الأمر هو إستنتاج من واقع لبنان الجغرافي ونسيجه الاجتماعي، وضعف مؤسساته العامة منذ نشأته، حيث كان للعدو الصهيوني دور جوهري في إضعاف الدولة اللبنانية، والمصالح الغربية في المنطقة، والفساد المُستشري في القطاعين العام والخاص.

فهل يُعقل أن يبقى الوضع الاقتصادي والمالي على ما هو عليه إلى حين وصول الضوء الأخضر من الخارج، أو التوافق على تقسيم الجبنة بين الأطراف؟ الجواب بالطبع لا، ولكن ماذا يُمكن عمله؟

بحسب تصريح حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري خلال المؤتمر الإغترابي اللبناني لتنمية مستدامة في طرابلس والشمال، أن «مصرف لبنان حقق فائضاً في احتياطاته بلغت مليارا و100 مليون دولار أميركي». وعزا هذا الأمر إلى وقف تمويل الدولة، وإلى بيع الليرات في السوق اللبناني.

وهنا يُطرح السؤال ماذا سيفعل منصوري بهذه الأموال؟ هناك ثلاثة إحتمالات:

- أولًا : أن يُحافظ عليها إلى حين الحاجة وإستخدامها في ظل ظروف إستثنائية.

- ثانيًا : إقراضها للدوّلة، وهو ما رفضه منصوري عدة مرات في تصاريحه الإعلامية.

- ثالثًا : أن يعمد منصوري إلى ضخّها في الإقتصاد.

إذا كان الإحتمال الأول هو الأرجح، إلا أننا نرى أن الإحتمال الثالث هو الأهم والأنفع للصالح العام في هذه المرحلة الحرجة، خصوصا بعد ما ذكرناه في المُقدّمة عن إنسداد أفق الحل في المدى القصير إلى المتوسّط.

لكن فعليا ماذا يعني ضخّ هذه الأموال في الاقتصاد؟ المعروف في علم المصارف أن وظيفة المصارف الأساسية هي تلقّي الودائع (حيث لها الحصرية) والقيام بإقراضها إلى لاعبين إقتصاديين، بهدف تمويل الاقتصاد. وينشأ عن هذه العملية ما يُسمّى بالرافعة من خلال الـ credit multiplier. وبالتالي ما يُمكن أن يقوم به مصرف لبنان هو ضخ هذه الأموال في القطاع المصرفي لإقراضها إلى القطاع الخاص، مع التركيز على القطاعات الاقتصادية حيث الإستثمار بهدف دفع النمو الاقتصادي. هذا الأخير هو الحجر الأساس في أي عملية خروج من الأزمة بحكم أن خلق الثروات (من الماكينة الاقتصادية) هو العامل الوحيد الكفيل بإمتصاص الخسائر.

هذا النمو الاقتصادي إذا حصل سيزيد من مداخيل الدولة الضرائبية، وسيسمح لحكومة تصريف الاعمال بالإعتماد أكثر على مداخيلها، بدل الإقتراض والعيش بالتقشف القاتل كما هو الواقع حاليًا. أيضا هذه العملية ستُعيد الثقة رويدا رويدا إلى القطاع المصرفي، وسيسمح بجذب ودائع خصوصا من الشركات التي ستدفع لموظفيها عبر المصارف ، وبالتالي تفعيل عملية الإنقاذ وسدّ الودائع من أرباح المصارف وأرباح الدولة وأرباح مصرف لبنان. لكن هناك مُشكلة: كيف يُمكن الوثوق بإعطاء الأموال إلى اللاعبين الإقتصاديين إذا لم يكن هناك من ضمانات تقليدية، وأيضا ضمانات من قبل القضاء بعدم إلزام المصارف القبول بالدولار المصرفي المحجوز لديها لسدّ القرض. من هنا، نرى أن قانونا ينصّ على سد القروض بالدولار «الفريش» بالطريقة نفسها هو أمر ضروري، لضمان عودة الأموال التي ضخّها المصرف المركزي اليه.

هل من عائق أمام هذا القانون؟ من المفروض ألا يكون هناك عائق، خصوصًا أن لا حسابات سياسية قائمة حول الموضوع (؟) وأن هناك مقاصة في المصرف المركزي للدفع بـ «الفريش»، مما يعني تقليل التعامل بـ «الكاش» وتفادي الكارثة التي ستحصل في تشرين القادم ، عنيتُ بذلك وضع لبنان على اللائحة الرمادية (؟) الجدير ذكره، أن هناك ما يُقارب الثلاثة مليارات دولار أميركي ودائع في المصارف اللبنانية على شكل ودائع «فريش».

عزوف المصرف المركزي عن القيام بضخّ الأموال في القطاع المصرفي بهدف الإستثمار، ورفض المجلس النيابي إقرار هذا القانون، يعني أن الاقتصاد يخسر أرقاما كبيرة. وهنا نستذكر أن ضخ مليار دولار أميركي في القطاع المصرفي بهدف الإستثمار قبل الأزمة، كان يؤدّي إلى نمو 1%، مما يعني أن ضخ المليار الآن سيؤدّي إلى نمو رسمي (وشرعي) بأكثر من 1% ، بحكم أن الناتج المحلّي الإجمالي إنخفض من 54 مليار دولار أميركي إلى أقلّ من 20 مليار دولار أميركي، ليُعاود صعوده إلى 23 مليار دولار أميركي حاليا.

إذاً، الخيار هو بيد حاكم المصرف المركزي بالإنابة وبيد المجلس النيابي. فهل يجرؤ الحاكم على ذلك؟ وهل تُسهّل السلطة السياسية عمل المصرف المركزي؟ الجواب بالطبع عند المعنيين.

يخسر لبنان يوميا فرصا إقتصادية كبيرة تُقدّر بعشرات مليارات الدولارات منذ بدء الأزمة، أي بمعنى آخر كان بإستطاعته رفع ناتجه المحلّي الإجمالي بعشرات مليارات الدولارات، لو أنه إستفاد من الفرص الإستثمارية التي فوّتها على نفسه. هذه الفرص تتمثّل بسدّ قسم كبير من إستهلاكه الداخلي، والذي يستورده لبنان مع كلفة تفوق المليار دولار شهريا، إذ يكفي في هذه الحالة تصويب الإستثمارات بإتجاه السلع الأكثر إستهلاكا لتصنيعها في لبنان ، حيث يُمكن خفض الإستيراد وفي نفس الوقت خفض البطالة.

بالطبع، هذا لا يمحي الإرتكابات التي قام بها البعض بحق المال العام وأموال المودعين، والذي يتوجّب على القضاء ملاحقتهم ومساءلتهم ومحاسبتهم. فهل ستقوم حكومة تصريف الاعمال بطرح جدّي في هذا الإتجاه، بدل التركيز على شطب الودائع وكيفية تبرئة ذمّة من عبث بالمال العام وأموال المودعين؟

الأكثر قراءة

عمليات اسرائيلية مكثفة في رفح والاستعدادات لحرب موسعة تتواصل! التيار والقوات في سجال «الوقت الضائع»