كثيرة هي الروايات التاريخية التي ألّفها كتّاب عرب في الآونة الأخيرة، ومعها كثير من الروايات التي اعتمدت العجائبية أساسًا في تشكليها، وأخرى كانت اجتماعية قصدت النقد والمساءلة في بيئة ومجتمع فيه ما يُسأل قادته عنه، كما صدرت عدة روايات اعتمدت الأسطورة أو الخرافة مسارًا، ليقوم المتلقّي بالإسقاطات اللازمة حسب ما تقتضيه ثقافته واهتماماته. ولكنّك مع رواية ليلى المطّوع "المنسيّون بين ماءَين" (دار رشم 2024) تقرأ كل ّ ما سبق وتمّ ذِكره. فهل وفِّقت الرواية بأن تضمّ كلّ ما سعت كاتبتها إليه، وتبقى روايةً جاذبة من النواحي الفنيّة والسردية والرمزية!؟
تبدأ الرواية مع "سليمة"، التي ننساها وننسى قصّتها فيما بعد لكثرة القصص من التاريخ التي حكتها لنا الرواية، وتعود لتذكّرنا الرواية فيها قبَيل نهايتها، لتقول للمتلقّي، إنّ ما وصلتَ إليه، بدأ معها، وقصّتها، الأسطورية أو الخرافية أو التاريخية أو الدينية أو الاجتماعية، مهما حاولت تصنيفها، لهي البداية لكلّ قصّة قرأتها، وقبل أن تنهي النصّ وكلّ ما يدور في داخلك من تساؤلات، لا تنسَ سليمة.
الأحداث مع سليمة تبدأ قبل آلاف السنوات، في جزيرة نعرف فيما بعد أنها "البحرين"، ونعرف إنّ الماءَين هما، المالح والعذب، ولمن يعرف الكاتبة، يعرف ذلك قبل البدء بالقراءة، ولكن تلك العودة والإغراق في التاريخ، والعودة إلى ممارسات البشر وبدايات الطقوس الدينية، والظلم الواقع على البشر، وخصوصًا النساء، هو من أهمّ ما أرادته الرواية، إلى جانب المساءلة الوطنية ومسألة الانتماء وأهمية الحفاظ على الأرض، جغرافيا وتاريخًا وناسًا...
تظهر ناديا، وهي التي يكون معها زمن القصّ في أيامنا الحالية، ناديا التي تعرّفنا قليلًا بجدّتها نجوى، وجدّها، والدكتور آدم الذي نعرف عنه الكثير فيما بعد، تفقد ابنتها، ومن ثمّ توأميها، من خلال قصّة، بين العجائبية والعلمية، بين داء الصرع وماء الينابيع والأفلاج، بين الغيبوبة والكوابيس وبين البحر المتنكّر، وبين الخرافة والمساءلة، الأمر الأخير الذي قصدته الرواية من بدايتها، مساءلة أصحاب القرار في هذه البلاد وما اقترفوه ضد طبيعة بلادهم المميّزة، فردموا النيابيع ودفنوا البحر، وتنكّروا إلى تقاليدهم ومهنهم الأصيلة، في سبيل العمران والتطوّر ومواكبة العصر الراهن.
القصص المعتمدة على التاريخ لم تلتزم بعصر بذاته، بل كانت فيها قفزات لمئات السنوات بين قصة وأخرى، لتعيد قصص البحر والماء، العذب والمالح، قصص النخل والمزروعات، قصص الينابيع والأفلاج، من خلال وقائع أدبيات أهل الجزر، التي بدأت مع إيا ناصر، فيعقوب، ثم درويش، وتنتهي مع مهنّا، جدّ ناديا الأكبر، تتخلل كل تلك الحكايات والإغراقات في التاريخ، حضور ناديا في الزمن الحاضر، لتشدّنا إلى ما يحصل اليوم، وتتركنا الرواية لنربط كل تلك الخيوط، بلغة سلسة وعذبة، تعطينا فيها الرواية أطراف الخيوط، فتسهّل علينا المهمّة، حتى ليخيّل إلى القارئ أنّ آلاف السنوات تلك، لا يفصلها سوى ساعات عمّا يحصل مع ناديا، وهنا براعة أتقنتها الكاتبة ووفّقت فيها.
لقد تعبت الكاتبة في أبحاثها، ولعلّ السؤال المطروح دائمًا لكاتب الرواية التاريخية، هل وظّفت ذلك من أجل الفنية أم أخذك التاريخ والبحث، ومع هذه الرواية، يجد المتلقّي نفسه أمام حكايات لأهل الجزيرة تلك، بلغة تشبه المرحلة التي تحكي عنها، وقصص أناس وشخصيات أعطتهم من الصفات ما يناسب تلك الحقبة، ولعلّ الأهم، ما قدّمته للمتلقّي من معلومات حثّته على البحث، فأنا شخصيًّا لم أكن أعلم ما كانت تمتاز به البحرين من غنى في الماء والحضارة والتاريخ! ولكن هل بقيت السردية والفنية والبناء المحكم. أقول نعم، فقد كان الانتقال من مرحلة إلى أخرى، بعدما نطلّ على ما يحصل في زمن ناديا، وبعدما اعتدنا لغة الكاتبة وأسلوبها، منتظَرًا بشكل مشوّق، فكنتَ تقول في نفسك، إلى أين ستنقلنا الآن، إلى أيّ عصر، ما الذي كان متحكّمًا بعقلية الناس، أهل البحر والصيد والإبحار، لتدخل إلى باب جديد من أبواب الأدبيات، وتعرف الكثير، من خلال سرد شائق ومحكم وأنيق.
ولأنّ الإنسان في نهاية الأمر قضية، يبحث القارئ عن غاية الكاتب، مستفَزًّا من كمية الأبحاث المبذولة من قِبَل الكاتبة حتى تقدّم نصًّا روائيًّا فنيًّا كهذا، فهل كان كلّ ذلك من أجل الفنية، أم أنّ الكاتبة صاحبة قضيّة، فتجد نفسك أمام باحثة تقول إنها أرادت فهم مجتمعها، التي تنتمي إليه وإلى بلادها بكلّ حبّ وتجذّر، فما كان منها سوى أن وظّفت همّها الاجتماعي والوطني، لتثبت أنّ المثقّف العربيّ، لا يمكنه أن يهدأ، إنّ تملَّكه همّ بلاده، وما أكثرها هموم هذه البلاد.
المنسيون بين ماءَين، نصّ مشغول بتعبٍ وحبّ، ومشغول بلغةٍ فيها من الجدّة والإتقان ما لا يسمح هذا المقال بالحديث عنهما، وخصوصًا تلك الجمل القصيرة التي ميّزت النصّ بإيقاعات سريعة، أبعدتها عن رتابة التاريخ والمحلّية، فكانت اللغة متقنة وسريعة، على الرغم من طول الفصول أحيانًا، لغة لنصّ متكامل، سيكون له حضوره بقوّة، إن تمّ إنصافه بالشكل الذي يستحقه خلال المرحلة المقبلة.
المنسيون بين ماءين، رحلة وعرة، لا يمكنك أن تخرج منها وموقفك كما كان، تجاه البحر وتجاه الرمال، تجاه الينابيع وتجاه النخل، تجاه التطوّر وتجاه العمران. ولكنك بكلّ تأكيد، ستكون مستمتعًا وأنتَ تقوم بتغيير الكثير من أحكامك المسبقة تجاه قناعاتك.
يتم قراءة الآن
-
العلويّون ضحايا العلويين
-
حزب الله يُحذر من الخروقات «الإسرائيليّة»: للصبر حدود الجولاني مُستقبلا جنبلاط: سنكون سنداً للبنان
-
إيران: الانفجار الكبير أم التسوية الكبيرة؟
-
"Soft landing" فرنجية : فتّش عن المحيطين "كفانا خسارة"! جنبلاط نسق مع بري وقطع الطريق على جعجع القوات تنتظر بري وناقشت كلّ الخيارات منها المقاطعة
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
13:03
وسائل إعلام "إسرائيلية": تقرير أولي عن محاولة طعن عند حاجز حيزما قرب القدس وتم إطلاق النار على المنفذ
-
12:54
"يسرائيل هيوم": شاحنة دهست عدة أشخاص في حولون والخلفية قيد التحقيق
-
12:53
كتائب الشهيد أبو علي مصطفى: استهدفنا بالاشتراك مع سرايا القدس تحشدات "جيش" الاحتلال شرق رفح برشقة صاروخية من عيار "107"
-
12:53
الجبهة الديمقراطية تدين العدوان الأميركي – البريطاني – الإسرائيلي على اليمن
-
12:52
الجبهة الديمقراطية: العدوان على اليمن يؤكد مرة أخرى أننا أمام مشروع أميركي – أطلسي – "إسرائيلي" لإعادة هندسة أوضاع المنطقة
-
12:47
اشتباكات عنيفة في مخيم جنين بين الأجهزة الأمنية ومقاتلين