اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


إنّ كتابة رواية اجتماعية تتداخل فيها الأمور السياسية مع ما يرافق ذلك من حوارات ونقاشات حول التاريخ والحرب والأخلاق، لهي من الأنواع السائدة في الرواية العربية، وأن تكون الرواية لكاتب مصريّ، فإنّ المتلقّي لا يستغرب التركيز على كل ما هو مرتبط بالسياسة والتاريخ والمساءلة، حتى وإن كان أحيانًا على حساب الفنيّة واللغة، فما الذي قدّمته لنا رواية "ورثة قارون" (دار العين 2024) لمحمد اسماعيل.

تبدأ الرواية متعدّدة الأصوات، نعرف شخصياتها الخمسة مباشرةً من فصول الرواية الأولى، نجلاء وخالد وباسم وصبري ومن بعدهم شيري. يلتقي الخمسة بعدما فرّقتهم السنوات، للأسباب التقليدية المعروفة، الزواج والسفر والعمل، وما يرافق ذلك من نجاحات وإخفاقات، تعود نجلاء من دبي، تلتقي شيري، من ثمّ تلتقيان مصادفة بالأصدقاء الرجال الثلاثة، تجمعهم فيما بعد مجموعة "واتساب" ولقاءات عديدة.

حاول الكاتب أن يعطي لعمله صفة التعقيد بأن يكون بوليفونيًّا (متعدد الأصوات) بحسب باختين، ولكنه جاء سلسًا وبسيطًا على الرغم من تبادل الشخصيات مهمة السرد مع كل فصل، والفصول كانت قصيرة نسبيًّا، لأنّ التركيز على الحدث كان طاغيًا وليس على الشخصية وصفاتها وتعقيداتها وعقدها النفسية، وهو ما تمتاز به الرواية البوليفونية عادةً. فلا يجد المتلقّي نفسه بحاجة إلى وقت ليعتاد التقنية، فهي لم تكن تتوخى الإغراق في الحالة النفسية للشخصية. ومع وصول نجلاء إلى قرية قارون في الفيوم، تعرف بأمر البيت والكنز الذي قد يكون مدفونًا تحته، وبعدما تخبر "الشلّة" بالأمر، فيتوّجه النصّ نحو الحفر لاكتشاف كنز، ومن هنا تبدأ القضايا التاريخية والسياسية والأخلاقية بالسيطرة.

أقول إن هذه المسائل تسيطر لأنّ الأحداث لم تكن مشغولة على التشويق أو على رمزيات المكان أو ألعاب الزمان، بل كان همّ الكاتب أن يخبرنا عن تاريخ مصر وعراقته، وعن مواقفه السياسية تجاه عبد الناصر وقراراته، يتغنّى حينًا بتاريخ البلاد البعيد، ويسائل تاريخها الحديث، من خلال حوارات كانت رشيقة وسلسة، لنصّ قد يُقرأ في جلسة أو اثنتين.

الجميل في الرواية أنها تضع المتلقّي أمام مساءلات أخلاقية كثيرة ومتشعبة، وتترك للشخصيات القيام بأدوار تجبره على التفكير والتعمّق فيها، بداية مع قصة والد نجلاء التي نكتشفها من صديقه في القرية، وما حمّلته إياه قريته ومجتمعه من مسؤوليات ونتائج أصابت البلاد، وقصة العمّتين والاستغلال، للأخ ولابنته فيما بعد، وقصة نجلاء وموافقتها على محاولة اكتشاف الكنز المدفون وبيعه، الكنز الذي هو بطبيعة الحال آثار مصرية، ومقارنته بالوطنية التي صحت متأخرة برأيي عندما رفضت بيع البيت والمعبد تحته، فما الفرق بين الحالين، عندما يتعلق الأمر ببلادنا وإرثها وتاريخها وآثارها. من بعدها تأتي علاقة كل شخصية منفردة بمسألة بيع الآثار، وهنا الأساس في الرواية وهو الصراع الذي تجبرنا عليه فتجعلنا نسائل أنفسنا حول مواقفنا الأخلاقية تجاه بلادنا، وهل يحقّ لابن هذه البلاد اختيار ما في صلاحه الشخصيّ عندما يراد، وتبريره!

مسائل أخرى وردت، ولعلّ أبرزها العلاقة العابرة التي جمعت شيري وباسم، والتي توهمنا بدايتها بأنّ افتتانًا حقيقيًّا حصل بينهما، ولكن سرعان ما تضعنا أمام حقيقة أنّ الاثنين أراد كل واحد منهما استغلال الآخر ومعرفة هذا الآخر حول الكنز وتفاصيله، ومن هناك تظهر علاقات الشخصيات المتأزمة جميعها، هم الذين التقوا على المحبة و "الصحوبية" الجميلة، فنكتشف أن السنوات كانت كفيلة بأن يكره أحدهم الآخر ويعيّره بما لديه ويحسده أحيانًا، في مواجهات غير مباشرة، وهذا أمر أخلاقي آخر يُضاف إلى ما سيطر على النص.

لغة الرواية، وتحديدًا في فصولها  الأولى كانت مشكلة، وأنا أردّ الأمر هنا إلى التحرير الذي تقع مسؤوليته على عاتق دار النشر، وعلى الرغم من أن الصياغة وبعض الركاكة تقع على عاتق الكاتب، ولكن التحرير الجيّد يجنّب الكاتب هذه الأمور البسيطة، فعلى الرغم من عدم لجوء الرواية إلى العامية، ولكنها في مواضع كثيرة كانت قريبة في لغتها الفصحى من العامي، الذي قد يصل إلى الركاكة.

هي رواية سهلة ولطيفة، أسلوب الكاتب رشيق وسلس يأخذك إلى أفكاره من دون جهد، كان يمكن للتقنية فيها أن تأخذ دورًا أكبر لولا تركيز كاتبها على بثّ مواقفه تجاه بلاده وتاريخها وأخلاقيات التعاطي معها، عن قصد أو عن غير قصد.

الأكثر قراءة

حزب الله يُحذر من الخروقات «الإسرائيليّة»: للصبر حدود الجولاني مُستقبلا جنبلاط: سنكون سنداً للبنان