في زمن تتعاظم فيه أهمية الحفاظ على البيئة وصحة الإنسان، لا تزال بعض الشركات في لبنان تتصرف بوحشية بيئية مدمرة، غير مبالية بحياة السكان أو بطبيعة البلاد. ما حدث في بلدة شكا خلال عيد انتقال السيدة العذراء ليس سوى مثال صارخ على كيف يمكن للجشع البشري أن يحول المناسبات الدينية المقدسة إلى كوابيس بيئية تهدد الأرواح. مع كل عيد، تتجدد معاناة السكان مع الغبار السام، وتتزايد المخاوف من كارثة صحية وبيئية لا تزال تطاردهم.
خلال عيد انتقال السيدة العذراء، شهدت بلدة شكا حدثًا مأسويًا، حيث لم تتوقف شركات الترابة عن إرسال "هدايا الموت" إلى منطقة الكورة. لم تستثنِ هذه الشركات حتى الأيام المقدسة والمناسبات الروحية، بل استغلتها لتزيد من معاناة السكان. هذا العام، تميزت هذه "الهدية" بإطلاق مكثف للغبار السام والمسرطن من مصانع الترابة القديمة، التي كانت في الأصل خردة تم شراؤها من دول استُهلكت فيها لعقود طويلة، لتتم إعادة تركيبها وتشغيلها في لبنان، غير مبالية بالمخاطر الصحية والبيئية.
أثناء الأعياد، استمر انبعاث الغبار المشبع بالكبريت والمعادن الثقيلة والانبعاثات السامة من أفران مصانع شركات الترابة التي تكررت عدة مرات. هذه المصانع التي لا تصلح للعمل حتى في الصحاري، تم وضعها بوقاحة بين البيوت والقرى والمدن المكتظة بالسكان، مما حول الأهالي الأبرياء إلى ضحايا لحرب بيئية قاسية، يعيشون في ظل تهديد دائم لحياتهم وصحتهم.
لم يكن هذا كله سوى جزء من القصة الكاملة، إذ كشفت صحيفة " الديار" في تحقيقاتها أن هذه المصانع قد استُخدمت لعشرات السنين في الخارج، وبعد انتهاء صلاحيتها هناك، شُريت كخردة وأُعيد تركيبها داخل لبنان. والمثير للقلق أن هذه المصانع تم وضعها بشكل غير مسؤول على أهم مصادر المياه الجوفية في البلاد، مما يضاعف من خطر التلوث والضرر البيئي.
وفي سياق متصل، علمت "الديار" أن سفينة آتية من إسبانيا أفرغت شحنة ضخمة من الفحم البترولي تصل إلى خمسة عشر ألف طن، الذي تسمح وزارة البيئة باستخدامه بنسبة 6٪ من الكبريت فيه. هذه النسبة العالية من الكبريت تعدّ جريمة بيئية خطرة تهدد كل أشكال الحياة، حيث تحترق الصخور الكلسية الملوثة بالكبريت والمعادن الثقيلة في هذه المصانع، مهددة الحياة البشرية والحيوانية والنباتية في المنطقة.
المثير للدهشة والاستياء هو أن الأردن أوقف استخدام الفحم الحجري والبترولي منذ عام 2004، بينما لبنان ما زال يسمح باستخدامه في مصانع الإسمنت، بعد أن كان يستخدم سابقًا في مصانع الحديد التي أُغلقت لاحقًا. هذه السياسات البيئية الخاطئة حولت لبنان إلى ساحة حرب ضد البيئة وأهاليها، مما يزيد من حدة الأزمة ويعقد سبل حلها.
مصادر خاصة أكدت لـ "الديار" أن الأموال المستخدمة في شراء أسهم شركة الترابة هي أموال منهوبة، استولى على معظمها أحد رؤساء الحكومة السابقين المتورط في صفقات الفساد الشهيرة مع شريكه وابن مدينته صيدا. تلك الصفقات التي شملت نهب عشرات ملايين الدولارات من المنطقة الحرة في مطار بيروت، إلى جانب أموال جميع الشركاء في صفقة شراء أسهم شركة الترابة.
في ما يتعلق بسعر طن الترابة، فقد حدد مجلس الوزراء السابق سعر طن الإسمنت بـ 65 دولارا (وفق القرار رقم 11 بتاريخ 7/7/2020)، ثم تم تخفيضه إلى 240 ألف ليرة، أي أقل من ثلاثين دولارًا (بناءً على القرار رقم 18 بتاريخ 14/7/2020). ومع ذلك، قام وزير الصناعة الحالي بإصدار تسعيرة جديدة للإسمنت بدأت بـ 78 دولارًا منذ 31/8/2022 لتصل إلى أكثر من 80 دولارًا اليوم، مع إضافة ضريبة القيمة المضافة، مما يمكن شركات الترابة من جني أرباح خيالية تستخدم لدفع الرشى الكبيرة لتأمين استمرار عملها الخارج على القانون.
وفي هذا الصدد، أشار رئيس مجلس إدارة جمعية "بلادي خضرا"، جورج قسطنطين العيناتي، في مقابلة مع "الديار"، إلى أنه قد تقدم بدعوى قضائية ضد وزير الصناعة كورك بوشكيان، الملقب بجورج بوشكيان، لرفعه سعر طن الإسمنت على الشعب اللبناني بشكل فاحش، ما شكل ضربة كبيرة للاقتصاد اللبناني وللقطاعين العام والخاص. ودعا قسطنطين القضاء المختص إلى رفع الضرر والخسارة والاحتكار عن كاهل الشعب اللبناني المظلوم، وإلزام وزير الصناعة بالتقيد بقرار مجلس الوزراء رقم 18 وإنزال سعر طن الإسمنت، مع إرجاع المبالغ الكبيرة الناتجة من فرق سعر طن الإسمنت إلى الخزينة، واتخاذ الإجراءات القانونية حياله مع شركائه في هذه الجريمة المالية والاقتصادية الخطرة.
ولم يتوقف الأمر هنا، بل حمّل قسطنطين وزير الصناعة كورك بوشكيان ووزير البيئة ناصر ياسين كامل المسؤولية عن عودة عمل مقالع شركات الترابة القاتلة، محذرًا من المجزرة البيئية المستمرة التي ترتكب ضد أهالي الكورة ولبنان ككل، حيث ينتشر السرطان وأمراض القلب والجلطات الدماغية والأمراض التنفسية نتيجة الانبعاثات الخطرة المرتبطة بصناعة الإسمنت. هذه الكارثة البيئية لم تعد مجرد أزمة محلية، بل تحولت إلى تهديد حقيقي لصحة وحياة الآلاف من اللبنانيين، ما يستدعي تحركًا عاجلًا من الجهات المعنية لوقف هذا التدهور البيئي والاقتصادي الكارثي.
ما يحدث في شكا ليس مجرد تلوث بيئي عابر، بل هو حرب خفية تُشن على سكان المنطقة، حرب يقف وراءها مصالح مالية وفساد يغيب فيه الضمير الإنساني. ومع استمرار هذه الكارثة، تتزايد الأسئلة حول من سيحاسب المسؤولين عن هذه الجريمة البيئية؟ وهل ستتحرك الدولة لوقف هذه المجازر البيئية قبل فوات الأوان؟ إن الوقت قد حان لاتخاذ موقف حازم لحماية ما تبقى من صحة وبيئة في لبنان، قبل أن تتحول الأعياد والمناسبات إلى مآتم تحصد الأرواح بدلًا من أن تجمع الناس على المحبة والسلام.
يتم قراءة الآن
-
مُراقصة المستحيل في جنوب لبنان
-
الشيخ نعيم قاسم أميناً عاماً لحزب الله... تفاؤل حذر في مفاوضات الدوحة الانتخابات الرئاسية مُرَحّلة الى العام المقبل
-
مَن جرّب حزب الله... عقله مخرّب
-
إجماع نيابي على عبارة حرب «إسرائيليّة» ومُهجّرين وليس نازحين مراكز إيواء خالية من السلاح... واقتراح مُساعدة ماليّة شهريّة
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
23:45
إذاعة الجيش الإسرائيلي: انفجرت طائرة بدون طيار انطلقت من العراق في شمال مرتفعات الجولان، وسقوط مسيرة تسللت من جهة الشرق باتجاه منطقة شمالي الجولان دون وقوع إصابات
-
23:44
القناة 14 الاسرائيلية: بن غفير يهدد نتنياهو بإسقاط الحكومة إذا مضى بالاتفاق مع حزب الله
-
23:43
وزارة الصحة: 19 شهيداً في حصيلة غارات الجيش الإسرائيلي على مزرعة صليبي وبدنايل في بعلبك
-
23:31
المقاومة في جنوب لبنان: قصفنا تجمعات لجنود الاحتلال "الإسرائيلي" في مستعمرة جشر هزيف بصلية صاروخية
-
23:17
تجدد الغارات على سحمر في البقاع الغربي
-
غارة عنيفة على حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت