اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


في خفايا أروقة بلدية بيروت، حيث تتشابك المصالح وتُنسج خيوط الفساد، تجري أحداث درامية تتخطى حدود الخيال. مع مرور الوقت، باتت قصة خليل زيدان، المتعهد الذي يلقب بـ"المدلل" في البلدية، واحدة من أعظم الروايات المثيرة التي تكشف عن شبكة معقدة من الفساد والاختلاسات. بدأت هذه القصة من عهد المحافظ السابق زياد شبيب، حيث كان يُفترض أن تُعيد شركة "هايكون" تأهيل الأشجار في أرجاء العاصمة، لكن سرعان ما تبين أن هذه المهمة التي كلفت ملايين الدولارات كانت مجرد سراب. فالأشجار التي كانت تُفترض أن تزين المدينة تحولت إلى بقايا يابسة، والمال العام تلاشى في مشروع وهمي. بينما تتكشف التفاصيل، يصبح من الواضح أن هذه الحكاية ليست مجرد قصة فساد عادية، بل هي دراما متشابكة من التلاعبات والابتزاز، حيث تتورط أسماء كبيرة وتتعقد الأمور أكثر فأكثر.

كيف بدأت القصة؟

بدأت القصة المثيرة في عهد المحافظ السابق زياد شبيب، حيث كان جمال عيتاني يرأس المجلس البلدي. في تلك الفترة، مُنحت شركة "هايكون" بقيادة عماد الخطيب مهمة إعادة تأهيل الأشجار والزراعة في كافة أرجاء بيروت، خصوصًا في المساحات الفارغة بين الأوتوسترادات. وكان دفتر الشروط قد حدد بدقة أنواع الأشجار والخضروات المطلوبة لكل موقع، بتكلفة ضخمة وصلت إلى 9 مليار ليرة لبنانية، أي ما يقارب 6 مليون دولار في ذلك الوقت. تم دفع هذا المبلغ للمتعهد الرئيسي، الذي سلم العمل لمتعهد من الباطن (متعهد ثانوي يلتزم بتنفيذ جزء من العمل المحدد في العقد الرئيسي، وغالبًا ما يكون ذلك تحت إشراف أو توجيه المتعهد الرئيسي. يتفق المتعهد من الباطن مع المتعهد الرئيسي على تفاصيل العمل والتكاليف والجداول الزمنية، ويكون مسؤولاً عن تقديم جودة العمل وفقًا للمعايير المتفق عليها)  يُدعى خليل زيدان، والذي كان أيضًا يحصل على مشاريع من الباطن من متعهدين آخرين حيث عمل على نسق عماد الخطيب وجهاد العرب.

لكن الأمور لم تسر كما هو مخطط لها. فعلمت "الديار" من مصادرها الخاصة أن طرقات بيروت، التي كان يُفترض أن تتزين بالأشجار، كانت خالية تمامًا من الأشجار المذكورة في دفتر الشروط. بل إن الأشجار التي زُرعت وجدت يابسة، ولا توجد أي نتائج تتناسب مع المبالغ الطائلة التي دفعت. وكان من الواضح أن الأموال الطائلة ذهبت على "أشجار يابسة".

ثم جاء المحامي علي عباس، الذي قرر أن يضع الأمور في نصابها، فقدم بلاغًا للنيابة العامة المالية في عام 2021. أما القاضي علي إبراهيم، الذي تولى القضية، وجد أن هناك هدرًا كبيرًا في المال العام، فقرر ابراهيم أن يدعي أمام قاضي التحقيق الأول شربل أبو سمرا، من ثم خلفه القاضي بلال حلاوي.

خلال التحقيقات، فوجئ القاضي إبراهيم بحجج المتورطين الغريبة، حيث ادعوا أنهم وضعوا الأشجار المطلوبة ولكنها ذبلت وتيبست لأنهم "نسوا سقيها"! كان هذا التفسير غير مقنع على الإطلاق، ما جعل القاضي إبراهيم يواصل التحقيقات ويقرر توجيه التهم اليهم.

ورغم أن القضية العالقة أمام قاضي التحقيق قد تجلب التوتر والقلق، فإن الوضع لم يتغير. في الواقع، نلاحظ اليوم أن جميع أعمال الزراعة في بلدية بيروت تُمنح حصريًا لخليل زيدان بدون أي مناقصات قانونية، بفضل علاقاته القوية في البلدية. وبالفعل، يبدو أن "الرعاع القديم" قد عاد ليُمارس سرقة جديدة، حيث تُعطى عقود الزراعة له دون احترام لقانون الشراء العام، مما يجعل من المستحيل على المتعهدين الآخرين المنافسة.

في مشهد درامي، قدم عدد من المتعهدين، مثل ناصر الحمصي، اعتراضات رسمية على استبعادهم من الأعمال البلدية. فقد قدم الحمصي اعتراضًا إلى مكتب المحافظ مؤكدًا أنه يقدم عروض أسعار أقل بنسبة 50% من تلك التي يقدمها زيدان. لكن دائرة الحدائق في البلدية، التي تحتكر التلزيمات، لم تلتفت إلى هذه الاعتراضات، تاركة الباب مغلقًا أمام المنافسة الشريفة.

في ختام القصة، خليل زيدان، الذي يُعتبر "واجهة" للمتعهدين السابقين، يستمر في استغلال سلطته في البلدية، ويواصل تنفيذ المشاريع بمواصفات لا تتناسب مع حجم الأموال المدفوعة.

وبينما يظل الغموض يلف ملفات الفساد المتشابكة في بلدية بيروت، يبقى السؤال الأهم عالقًا في الأذهان: كيف تم هدر ستة ملايين دولار على مشاريع زراعية كانت نتائجها مجرد أشجار يابسة؟ كيف يُسمح للمتعهد الذي عُرف سابقًا بتنفيذ مشاريعه بشكل مخفي، أن يواصل العمل بشكل علني، في ظل الكم الهائل من الدعاوى ضده؟

التساؤلات لا تتوقف هنا، بل تمتد إلى أبعد من ذلك. لماذا تستمر البلدية في منح التلزيمات إلى زيدان، ليس فقط في مجال الزراعة بل في مشاريع أخرى أيضًا؟ وكيف يُسمح له بأن يحتكر هذه التلزيمات في الوقت الذي يُفترض فيه أن يكون الخضوع للقوانين هو المعيار الأساسي لتوزيع الأعمال؟