اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


في الروايات التي تطرح قضية كبرى من قضايا المجتمع الذي ينتمي إليه الكاتب، يُدخل الأخير نصّه في الخصوصية وتفاصيلها ومدى قبولها وعدمه من قبل المتلقين، بمعزل عن انتماءاتهم وثقافاتهم وخلفياتهم المعرفية والدينية وغيرها. وفي العالم العربي، تأخذ تلك الخصوصية مناحي مختلفة، ولكنها تصبّ في قضايا مشتركة كثيرة، ولعلّ أبرزها القضايا المتعلقة بالمرأة، أو بالأنثى، ولعلّ الشرف وقضاياه تتربّع على عرش تلك المسائل التي قرأنا عنها وشاهدناها، أو ربّما عايشناها واختبرناها بشكل مباشر. وفي رواية "من قاع البئر" (دار أثر 2023) للروائية الأردنية أمل الحارثي، خصوصيّة تحتاج اليها المكتبة العربية مهما تكرر طرحها، ولكن ما الذي يواجهه المبدع في هذا المجال!؟

لعلّ أبرز التحديات تكمن في الجديد الذي سيقدمه، فحتى لو كانت القصة جديدة، يبقى السؤال حول قوة الحبكة والطرح وسبل معالجته وتقديمه بشكل متقن وجاذب للمتلقي، ليقنعه بأنّ نصّه فية جدّة ميّزته. فهل تحقق ذلك في "من قاع البئر"؟ أقول إنّ الأمر كان مربكًا وفيه تحدّ، وفيه صراع في أثناء قراءة النصّ، الموضوع جاذب والقضية مستفزة ومطروحة بشكل صارخ بوضوحها، ولكن قوّةً في الحبكة والروابط بين العناصر ظللت أبحث عنها، فهل وجدتها!؟

النصّ يحكي قصة مريم التي رماها إخوتها في البئر بسبب تهمة لقائها برجل في بيته، فغسلوا شرف العائلة، مريم التي نعرف أنها في ألمانيا متزوجة تعمل ممرضة، ولها ابن مراهق، ونعرف بعدها كيف استطاعت الخروج من قاع البئر بمساعدة غريبٍ نعرفه في مقطع الرواية الأخير، مريم التي تكتشف ابنة غير شرعية لأخيها خالد، قاتلها، ومن تلك اللحظة تقرر هي، وأولغا تلك الابنة، البحث عنه، فتجده عند ابنه ومن هناك تأخذنا الرواية إلى لقاء يتمّ في النهاية بين المرأتين وخالد، وبين مريم وأمها، وبين عبدالله وخالد، عبدالله الذي عانى من اضطرابات نفسية طول حياته بسبب ما حصل.

رمزية البئر والقاع الذي نجت منه، استمرت في الظهور، ونراها حاضرة بقوة في نهاية الرواية عندما ترى مريم نفسها أنها الناجية الوحيدة وكيف بقي أهلها بما أسمته القاع، وهذا أمر يُحسب للرواية، ولكن الكاتبة استمرت في التدخل لتشرح ما تقصده من تلك الرمزية، في كل مرة كانت توحي بالأمر، الأمر الذي أفقد النصّ قوته ومتعة القراءة، فالمتلقي يريد المشاركة برأيه وتأويلاته وتحليلاته، ولكن النصّ لم يترك له ذلك المجال. مسألة الشرح تلك لم تكن مرتبطة برمز القاع والبئر فقط، بل كانت تستعملها الكاتبة كثيرًا مع رمزيات أخرى.

اللغة كانت قوية وجذلة، لا يشوبها خلل، حرصت الكاتبة على الابتعاد الكلّيّ عن المحكيات، والتزمت الفصحى في الحوارات جميعها، وهو أمر يُحسب للنصّ وكاتبته، وهو الحرص على الارتقاء بالنص والعناية به من هذا الجانب، وهو ما خدم تعلّق القارئ بالرواية والخوض معها من أجل اكتشاف قصة مريم ومستقبل تلك القصة، وقد مرّت الرواية على قصة عباالله وبناته، وقصة اللقيط/المهبول الذي تنتهي الرواية معه، لتقول إنّ قضايا كالإجهاض والشرف والتربية والأعراف المرتبطة بالمرأة وشرفها وحياتها، أمور قد تؤزّم حياة الرجال أيضًا، ولعل قصة أولغا، الابنة غير الشرعية لخالد قاتل أخته، كانت الأبرز لتوقفنا الرواية أمام تلك التناقضات، لنحاسب المجتمع، ونحاسب أنفسنا أيضًا وكل ترسّبات تقاليدنا البائدة، حتى وإن كنا متحررين، لنفكر معها بالأسئلة المطروحة، فهي لم تقدّم حلولًا، وهذا عامل جاذب وقويّ.

مسألة أخرى أعتبرها من المآخذ على الرواية، وهي ما يُعدّ استسهالًا، خصوصًا في بعض المواقف التي كانت أضعف من غيرها ترتبط بالحبكة الروائية، ولعل أبرزها كيف استطاعت صديقة مريم أخذ جواز سفرها بسهولة من غرفتها، وطريقة مسألة لقاء أولغا بابن مريم، وقد يكون لقاء عبدالله بأولغا أيضًا جاء بشكل غير مشغول بعناية، هذه الأمور لم تكن بمستوى القضية الكبرى التي طرحها النصّ.

أعود إلى ما بحثت عنه خلال القراءة، فأقول إنّ ما وجدته أعطى النصّ قوّة وميزة لم أقصد البحث عنها، فقد ذكرت سابقًا إنّ قوة في الحبكة والعلاقات كانت أضعف من القضية، ولكن قوّة النصّ كانت في أسلوب الكاتبة الجذل ولغتها، ما جعل تعلّق القارئ بالنصّ لا ينفصل عن تفكيره بعمق بالقضية، والتعاطف مع الشخصية وما حل عليها من ظلم، كنتَ تشعر به وتفكّر فيه وأنت لا تعرف أنك قرأت هذا العدد من الصفحات، فهذه الميزة لا تجدها عند الكثيرين، وقد تتعثّر أحيانًا بلغةٍ تحتاج إلى وقت لتعتادها، أما مع أمل الحارثي فأنتَ تقرأ نصًّا جاذبًا منذ بدايته وحتى النهاية. 

الأكثر قراءة

خاص "الديار": أول عملية استشهادية في الخيام ومعارك عنيفة مستمرة