اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


على الرغم من كوارثه الاقتصادية، الاجتماعية، والسياسية، جاءت الحرب لتحطّ رحالها في لبنان وتدمّر الحجر والبشر والطبيعة. شنّ الجيش الإسرائيلي موجة جديدة من الغارات على مواقع مختلفة في لبنان لتدمّر وتقتل الشعب وتلحق أضرارًا جسيمة بالبيئة. فالحرب الحاصلة في لبنان تترك تأثيراً بالغاً ليس فقط في المجتمع والاقتصاد، بل تمتد آثارها لتشمل البيئة أيضًا. ففي الوقت الذي تشغل فيه الأزمات الإنسانية والاقتصادية حيزاً كبيراً من اهتمام الرأي العام، تتعمق الجروح البيئية الناجمة عن الحرب، تاركة وراءها آثاراً مدمرة قد تستغرق عقوداً للتعافي منه.

دمار بيئي كبير

في حديث خاص لـ "الديار"، أكد الخبير البيئي البروفيسور "ضومط كامل" أن من أبرز الآثار المباشرة للحرب على البيئة هو تلويث الهواء بشكل حاد. فالتفجيرات المتواصلة واستخدام الأسلحة الثقيلة، كالقذائف والصواريخ، إلى جانب الحرائق الهائلة التي تلتهم المباني والغابات، تطلق كميات هائلة من الغازات السامة والجسيمات الدقيقة في الجو. تشمل هذه الملوثات الخطرة ثاني أكسيد الكربون، أول أكسيد الكربون، وأكسيد النيتروجين، وغيرها من المواد الضارة التي تزيد من حدة التلوث. يعاني لبنان، الذي يعاني أصلاً من تحديات بيئية، من تفاقم هذه المشكلة بسبب الحرب، مما يهدد صحة الإنسان والبيئة على حد سواء. فالتعرض المستمر لهذه الملوثات يزيد بشكل كبير من خطر الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي، مثل الربو والتهاب الشعب الهوائية، فضلاً عن أمراض القلب والأوعية الدموية وبعض أنواع السرطان.

ثانياً، تدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي جراء الحرب يؤدي إلى تلوث كارثي للموارد المائية الطبيعية. تتسبب الانفجارات والقصف المستمر بتسرب كميات كبيرة من المواد الكيميائية السامة والوقود إلى الأنهار والبحيرات والمياه الجوفية، مما يحول هذه الموارد الحيوية إلى مصادر للتلوث والأمراض. كما أن تدمير محطات معالجة المياه يفاقم الأزمة، حيث تصبح المياه غير صالحة للاستهلاك الآدمي أو الزراعي.

يعتمد غالبية سكان لبنان على المياه الجوفية كمصدر رئيسي للمياه، مما يجعل تلوثها تهديداً وجودياً. هذا التلوث الشديد يشكل خطراً جسيماً على الصحة العامة، حيث يزيد من انتشار الأمراض المعدية والأوبئة. علاوة على ذلك، فإن النقص الحاد في المياه النقية يؤدي إلى تفاقم التوترات الاجتماعية والاقتصادية، وقد يدفع المجتمعات المتضررة إلى النزوح والهجرة بحثاً عن مصادر آمنة للمياه.

ثالثاً، تعتبر الزراعة من القطاعات الحيوية في لبنان، ومع ذلك فإن الحرب لها تأثيرات مدمرة في الأراضي الزراعية. فالمناطق الريفية التي تعتمد على الزراعة تتعرض للقصف المستمر، ما يتسبب بتدمير المحاصيل وتلوث التربة. الانفجارات تؤدي إلى تدمير التركيب الفيزيائي والكيميائي للتربة، ما يجعلها غير صالحة للزراعة لفترات طويلة.

من جهة أخرى، النزوح القسري للسكان من المناطق الريفية إلى المدن يؤدي إلى إهمال الأراضي الزراعية وتدهور البنية التحتية الزراعية. هذا التراجع في الإنتاج الزراعي يؤدي إلى نقص في الموارد الغذائية وزيادة الاعتماد على الاستيراد، مما يفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.

رابعاً، لبنان معروف بتنوعه البيولوجي الغني، لكن الحرب تهدد هذا التنوع بسبب التدمير المباشر للمواطن الطبيعية والأنظمة البيئية. الغابات، التي تشكل موطنًا للعديد من الكائنات الحية، تتعرض للحرائق الناجمة عن التفجيرات أو الحرق المتعمد. كما أن الضوضاء الناجمة عن الحرب والأنشطة العسكرية تؤثر في الحياة البرية، مما يدفع الكائنات الحية إلى الهجرة أو الموت.

بالإضافة إلى ذلك، الأنشطة العسكرية قد تؤدي إلى إدخال مواد كيميائية ضارة إلى البيئة مثل المعادن الثقيلة والذخائر غير المنفجرة، والتي تشكل خطرًا على الأنواع النباتية والحيوانية. التأثيرات طويلة الأمد في التنوع البيولوجي قد تكون مدمرة، حيث يؤدي تدمير المواطن الطبيعية إلى انقراض بعض الأنواع أو تقليل تنوعها الجيني.

خامساً، الحرب تؤدي إلى زيادة كبيرة في كمية النفايات الناتجة من تدمير المباني والمنشآت، بما في ذلك النفايات السامة والخطرة مثل الأسبستوس والمواد الكيميائية. غالبًا ما تكون هناك قلة أو انعدام في القدرة على إدارة هذه النفايات بطريقة آمنة بسبب انهيار البنية التحتية. تراكم النفايات بشكل غير منظم يؤدي إلى تلوث التربة والمياه والهواء، مما يزيد من المخاطر الصحية للسكان.

جودة التربة والفوسفور الأبيض

بحسب الخبير البيئي، فإن جودة التربة في لبنان جيدة جداً، وبالتالي فإن تأثير هذه الحرب فيها لن يكون سيئاً جداً، نظراً لأن القذائف لا تؤذي التربة بشكل مباشر. أما بالنسبة للفوسفور الأبيض، الذي طالما اعتمدته إسرائيل في حربها على لبنان، فهو مادة شديدة الاشتعال تُستخدم في الأسلحة الحربية، وله آثار مدمرة على البيئة، وبخاصة التربة. عند استخدامه، يتفاعل الفوسفور الأبيض مع الأوكسجين مولدًا حرارة عالية جدًا، مما يؤدي إلى حرائق واسعة النطاق وتلوث خطر للتربة. فتتعرض التربة الزراعية لآثار مدمرة نتيجة احتراق الفوسفور الأبيض، حيث يؤدي إلى تدمير البنية المسامية للتربة بفعل الحرارة الشديدة، مما يقلل من قدرتها على الاحتفاظ بالماء والهواء الضروريين لنمو النباتات. بالإضافة إلى ذلك، يتسبب الفوسفور الأبيض وحمض الفوسفوريك الناتج منه في تغيير الرقم الهيدروجيني للتربة، مما يجعلها إما حمضية أو قلوية بشكل مفرط، وبالتالي يحد من قدرة النباتات على امتصاص العناصر الغذائية. كما أن المواد السامة المتسربة من الفوسفور الأبيض تلوث المياه الجوفية، مما يؤثر في مصادر الري ويضر بالنمو النباتي. ولا يتوقف الضرر عند هذا الحد، حيث تحتوي الشوائب الناتجة عن الفوسفور الأبيض على معادن ثقيلة مثل الرصاص والكادميوم، التي تتراكم في التربة وتدخل السلسلة الغذائية، مما يشكل خطراً على صحة الإنسان والحيوان.

في الختام، لا يمكن إغفال فداحة الخسائر البيئية التي يواجهها لبنان، والتي تتجاوز مجرد تدمير الحجر والبشر. فالبيئة اللبنانية، بما تحويه من تنوع بيولوجي وموارد طبيعية، تتعرض لدمار طويل الأمد قد يستغرق عقودًا للتعافي. إن تلوث الهواء والمياه، تدهور الأراضي الزراعية، وانقراض بعض الأنواع النباتية والحيوانية، ليست سوى بعض من الآثار الكارثية التي تتركها الحرب على البيئة. وفي حين يمكن إعادة بناء البيوت والمنشآت، فإن استعادة النظام البيئي المدمّر يمثل تحديًا أكبر يتطلب جهودًا مستدامة من أجل الحفاظ على مستقبل لبنان البيئي والصحي.

فهل سنشهد قريباً وقفاً لهذا العدوان الوحشي على لبنان، ويتمكن الوطن من تضميد جراحه البشرية والبيئية، أم سيطول بنا الأمد؟

الأكثر قراءة

«حبس انفاس» بانتظار نتائج الانتخابات الأميركيّة والردّ الإيراني صمود المقاومة براً يضع حكومة العدو أمام خيارات «أحلاها مرّ» قائد الجيش «مُستاء» ويكشف معطيات عن الإنزال: تعرّضنا للتشويش