اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

عندما يأخذ المبدع على عاتقه همّ بلاده ويقرر الالتزام بقضاياها ومشكلاته وأزماتها، يزجّ نفسه في مأزق قد لا يستطيع التفلّت منه، أو فلنقل قد يعلق داخل بوتقة القضية وتخفى عنه الفنية، في الرسم أو الرقص أو التمثيل أو الأدب...؛ وفي الأدب، قد تحضر سيطرة الهمّ التي شغلت عقل المبدع، لتسيطر على نصّه على حساب أدبية النصّ وتقنياته التي لا بدّ منها، ورواية "غرق السلمون" لواحة الراهب (دار نوفل 2024) أنموذج على ما سبق.

هي قصة أمل ابنة الضابط السوريّ الفاسد القاتل المستسلم لكلّ قرارات القيادة "الحكيمة" والتي يصبح أحد أفرادها، ومعها تدخل قصة أخويها ناصر ورند، وقصة الأم والأب نفسه، وتُعلِمنا النهاية بقصة سراب، الطفلة/الخادمة التي نعرف بموتها في بداية الرواية. ولولا بعض الأحداث القليلة جدًّا في نهاية الرواية التي كانت مخالِفة للمتوقَّع، لقلت إنني لو توقّفت هنا وتركت للقارئ توقّع أحداث النص، لعرفها كلّها.

أمل تحبّ ربيعًا، يعرف الأب الظالم، يسلّط عليه ابنه ناصر الذي يهيّئه ليكون خليفته، فيُزَجّ ربيع في سجون النظام الظالم، ويُعذَّب، ليصبح مع قيام الثورة واحدًا من قادتها، وتحديدًا من قادة أحد التيارات الدينية، تُزوَّج أمل بعصام الثري المغترب، الذي تميَّز بتمسيح الجوخ الدائم لوالد أمل، والذي نعرف أنّ ثروته تدور حولها الشكوك، تهرب منه أمل مع اندلاع الثورة وتحاول البحث عن ربيع، رند يخالف قرارات والده، وناصر يمشي على خطاه... أحداث تأخذنا بمعظمها، لنشبهها بأحداث المسلسلات، حتى الحوارات، التي كانت تختفي أحيانًا، وتظهر لتسيطر على النص بمساحة كبيرة في أحيان أخرى، وهو ما أراه خللًا أيضًا، تُشبه حوارات السيناريو.

في بداية النصّ شابت اللغة الفصاحة على حساب السلاسة والتبسيط لتناسب النصّ الروائي، فكانت أشبه بالخاطرة المشغولة بلغة فيها بعض الحذلقة، ولكنها رويدًا رويدًا تصبح مناسبة للرواية، سيطر عليها القوة والالتزام بتلك القوة، دخلت المحكية في الحوارات تحديدًا، وكانت مقبولة ومطلوبة، أما الأسلوب فكان بعد تخطّي البداية، جذلًا ومشغولًا بعناية وهذا يُحسب للنصّ. ولكن ما الجديد طالما أنّ الأحداث بمجملها كانت متوقَّعة!

الرواية تبدأ بموت الخادمة الطفلة سراب، ولكننا نعرف في النهاية بأنها لم تكن هي التي ماتت، وقد عاشت أمل حياة مزيّفة بكل تفاصيلها، ولعلّ الرمزية الأبرز لهذا الأمر، هو حكم ربيع عليها بوصفها ابنة تلك العائلة، فلو أنها بقيت سرابًا، باسـمها وبالمعنى الحرفي للاسم، لاتخذت حياتها مسارًا مختلفًا. أمّا إفساح المجال للأب ولناصر ورند بالظهور وتعبير كل شخصية عن ذاتها، بعيدًا عن سرد أمل، فكان أمرًا جيّدًا، على الرغم من أن بعض المعلومات تكررت، إلّا أنه كان مطلوبًا، خصوصًا عندما سمعنا صوت الأب، حتى لا تكون الرواية قد أدخلته بصفات الشرّ المطلقة، وقد جاء انهياره مع وفاة الزوجة التي ظلمها وأخرسها، دليلًا على ما سمعناه منه.

ربيع وناصر مثّلا وجهَي طرفَي الحرب في سوريا، وجه النظام ووجه الثوار، وعلى الرغم من أنّ النصّ ركّز على تشويه وجه النظام منذ صفحاته الأولى، وهو ما عبّرت عنه في المقدمة، فكان مسيطرًا على كل حواسّ الكاتبة، إلّا أنها في مساحة أقل بكثير، أظهرت جانبًا ظالـمًا للثوار، ولكنه جاء مع تمهيدات وتبريرات كثيرة أيضًا.

أمل هي سوريا بالفعل، ورمزية استبدالها بابنة المغتَصَبة هو العنصر الأقوى والأعمق في النصّ، ولو تمّ التركيز عليه وأخذتنا الأحداث خارج الأسرة والأب الظالم الضابط الفاسد وتبعات تربيته على مصير أبنائه، لكان النصّ واحدًا من النصوص الأقوى التي حكت عن أزمات بلادنا، فسوريا العربية أم القومية أم الكيانية أم البعثية أم الإسلامية، عاشت في كلّ مرحلة حياة غير حقيقتها كما عاشتها أمل، حملت من أخيها في النهاية نتيجة اغتصاب آخر، وهي مولودة نتيجة اغتصاب، فهل هي بالفعل حال بلادنا، من سيطرة لمغتصب خارجي، وسيطرة أخرى لمغتصب داخلي، وفرار وموت وضياع وشتات، فتكون أمل هي الرمز الأقوى، وابنتها حياة، التي لا نعرف إن كانت ستغرق وأمها أم لا (وهي أيضًا نهاية مفتوحة أصبحت عادية ومتوقَّعة) هي الرمز الثاني.

أقول في النهاية إنّ الأدب، والفنّ بشكل عام، يجب أن يكون غرضه الإمتاع، وعلى الفنان أن يُدخِل قضاياه وهمومه ويذيبها بخفّة وذكاء داخل نصّه، لا أن يجعل من النصّ وسيلة ومن موقفه الغاية، وإلّا فالخاطرة نوع جميل يمكن أن يلجأ إليه، أو فليكتب مقالًا أو يقوم بدراسة حول الأمر. 

الأكثر قراءة

في الذكرى الأولى لطوفان الأقصى: المقاومة تستنهض قواها للمواجهة شكل الردّ «الإسرائيلي» على ايران يُحدّد مصير المنطقة الملف الرئاسي... دقت ساعة البحث بالأسماء