اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


أحرزت إسرائيل قصب السبق في الإغتيالات السياسية والعسكرية في العالم وأعلنت نهاراً جهارا أن الإغتيال جزء من استراتيجيتها التي تفخر بها ولم تعترض أي من دول الغرب على ذلك وبذلك أدخلت تل ابيب مصطلحا جديدا في تسمية الدول تنفرد به اليوم هو " الدولة الإغتيالية". في نفس الوقت صدرت إحدى الصحف العربية قبل أيام بالعنوان التالي "إسرائيل تستهدف محيط قاعدة حميميم وتهدّد التفاهمات مع روسيا".

لا تتوقعوا أن تستخدم موسكو هذا الحادث كذريعة لقيام الطائرات الروسية الرابضة في سورية بأي عمل عسكري لوقف غارات إسرائيل على مواقع حزب الله أو حتى على المناطق المدنية في لبنان وحتى سورية فهذه الروسيا- اللغز تخفي أكثر مما تعلن. يقول أحد المتحدثين باسمها أن إسرائيل تجاوزت الكثير من الخطوط الحمر. مرحبا بخطوطكم الحمر التي تذكرنا بالخطوط الحمر المتحركة للرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما. وربما يخطر للبعض في أحلام يقظتهم أن موسكو قد ترى في هذه الجرأة الإسرائيلية غير المسبوقة فرصة لتكبير دورها في المنطقة رداً على تكبير الولايات المتحدة لدور"حلف الناتو" شرق أوروبا ودعمها لأوكرانيا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً إلى حد تزويدها بصواريخ بعيدة المدى في الحرب الدائرة مع روسيا فيساهم ذلك بقدر مهم في توازن القوى بين الطرفين. وليست همسات أن موسكو زودت المقاومة اللبنانية بمسيرات ذات أهمية تذكر إذ أن موسكو نفسها تستورد مثل هذه المسيرات من إيران والصين والأفضل والأدق منها موجود في حميميم لو كان هناك جدية في الموضوع.

لا يبدو أن هكذا تفكير متوفر في العاصمة الروسية. فهي الحريصة على إسرائيل منذ لحظة قيامها كما يعرف الجميع كما أن تحول حركة التحرر العربي لملاقاة نظامها السوفياتي في الخمسينيات والستينيات لم يغير الكثير من مواقفها تجاه تل أبيب وظلت هذه المواقف هي نفسها بعد انهيار التجربة السوفياتية في 1989-1991. صحيح أن علاقات موسكو ببعض العواصم العربية تحسنت في تلك الفترة وبدأت مرحلة من التعاون الإقتصادي والعسكري بين الجانبين، إلا أن ذلك لم يتم على حساب علاقات موسكو بتل أبيب التي ظلت دافئة بالإجمال.

كان الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول يقول ما معناه: "روسيا هي روسيا مهما تكن الايديولوجية التي تتبعها". بالفعل، كان هناك مثلاً من الوقائع ما يثير الهزء والحرج بعد الهزيمة العربية في 1967. فعند زيارة نيقولا بودغورني، أحد زعماء الترويكا السوفياتية الحاكمة وقتها، للقاهرة بعد اسبوعين من الهزيمة، طلب الرئيس عبد الناصر إعادة تزويد موسكو القاهرة بطائرات مقاتلة إذ أن سلاح الطيران المصري كان قد أبيد في الخامس من حزيران، فما كان من بودغورني إلا أن سأله جاداً، والقوات الإسرائيلية عند قناة السويس وعلى بعد أكثر من مائة كيلومتر بقليل، عن القاهرة: " هل تريد هذه الطائرات لإبادة إسرائيل أم لإزالة أثار العدوان؟" تكرر المشهد صيف العام التالي ( 1968 ) عندما إجتمع موفد الرئيس عبد الناصر، أنور السادات، بعضو الترويكا الآخر، الكسي كوسيغين، بعد أن كانت قوات حلف وارسو قد احتلت تشيكوسلوفاكيا بهجوم واسع من عدة جبهات ( بسبب اتجاه قيادتها الإشتراكية إلى نوع من اللبرلة التي لم يوافق عليها القادة السوفيات) فبادره السادات بالتهنئة لأن قوات حلف وارسو إستطاعت تنفيذ المهمة بسرعة لم تتجاوز 24 ساعة، فكان رد كوسيغن الساخر والمهين:" الم يعطكم هذا فكرة عن كيفية إحتلال تل أبيب في يوم وليلة؟"

السؤال : لماذا لا تحرك موسكو ساكناً عندما تعتدي إسرائيل على بلد عربي أو غير عربي صديق لها تريد أن تعزز صداقتها ومصالحها معه، بل لماذا لا تفعل ذلك عندما تتجرأ إسرائيل على استهداف إحدى منشآتها السيادية مثلما حدث عندما دخلت القوات الإسرائيلية سفارتها في بيروت عام 1982؟ لماذا هناك شيء يشبه "علاقة ناعمة خاصة" بين تل أبيب وموسكو؟ لماذا هناك " تفاهمات " بين الجانبين تسمح لإسرائيل بضرب أهداف في سورية ولبنان دون أن تعترضها الدفاعات الروسية الموجودة في قاعدة حميميم السورية ؟

ليس القول بأن روسيا مشغولة بحربها مع أوكرانيا ولا تستطيع الالتفات إلى أمور أخرى بالقول المقنع لأن إتخاذها لموقف جرىء في المشرق العربي يزيد من حجمها السياسي على المستوى العالمي (كما حدث في 1956 عندما أممت القاهرة قناة السويس وما تبع ذلك من تهديد عند وقوع العدوان الثلاثي على مصر) ويعيد لها الاعتبار المادي والمعنوي ويفّعل حركة دول العالم الثالث التي تقف عاجزة عن فعل أي شيء سوى الاستماع إلى كلمات مندوبيها في الأمم المتحدة التي أصبحت فاقدة القيمة حتى أن إسرائيل اعتبرت مواقف الأمين العام للمنظمة الدولية سبباً لاعلانه شخصاً غير مرغوب به وممنوع من زيارتها.

إذا قالت موسكو إن قدراتها الدفاعية في سورية ستسقط أية صواريخ أو طائرات متوجهة لضرب أهداف في منطقة ضمن المشرق من لبنان إلى إلعراق أو حتى حليفتها إيران ، لتغير الوضع الدولي رأساً على عقب ولاستعادت روسيا شيء من حجمها على الساحة الأوروبية والعالمية و لربما فُتح طريق لتسوية الأزمة الأوكرانية. الم تساعد الولايات المتحدة وبريطانيا إسرائيل في التصدي للصواريخ الإيرانية التي أطلقت ضد إسرائيل قبل عشرة أيام. لتقل موسكو انها ستفعل الشيئ ذاته بالنسبة لإيران، حليفتها الى الشرق التي تزود موسكو ببعض العتاد العسكري ولنرى....

الواقع أن أحداً لا يملك جواباً على سؤال اختفاء موسكو الحالي في المشرق العربي وإيران فهي في حالة وجودية تجمع الوجود مع اللاوجود، لكننا نستطيع التخمين أن روسيا لا تزال من الناحيتين الاستراتيجية و السيكولوجية متهيبة من تجربة 1962 حيث أدت مساعداتها العسكرية لكوبا إلى مجابهة الولايات المتحدة مما اضطرها في نهاية الأمر إلى التراجع وإلى سحب صواريخها من تلك الجزيرة التي تبعد عن شواطيء ولاية فلوريدا أقل من سبعماية كيلومتر. منذ تلك الأزمة في 1962 وموسكو تفعل أقصى ما تستطيعيه لعدم الإصطدام بالولايات المتحدة وتجنب ما قد يؤدي إلى الإحتكاك بينهما ولو كانت واشنطن هي التي تبدأ بمضايقة روسيا ودورها في أكثر من مكان.

اليوم، نعتقد أن الوضع معكوس، بمعنى أن الولايات المتحدة تحمي " كوباها"- إسرائيل- في غزواتها التدميرية لغزة ولبنان ...ثم إيران وتزودها باسلحة الإغتيال بنفس وتيرة أسلحة القتال حتى أصبح الكيان الصهيوني أول دولة في العالم يحق أن يوصف بأنه " دولة إغتيالية" متجاوزا دوره الإرهابي السابق سواء أكان ذلك بارادة الرئيس الأميركي جو بايدن ام بدونها أم بضوء أخضر من الدولة العميقة في الولايات المتحدة أم لا. اليس غريباً تصريح تيم والتز، المرشح لمنصب نائب الرئيس الديمقراطي إلى جانب كمالا هاريس، بالأمس: " يجب أن تقف أميركا إلى جانب توسع إسرائيل؟"

قد لا تستطيع موسكو إجبار واشنطن على سحب اسلحتها من " كوباها"، لكنها قادرة-برأينا- على تغيير قواعد الاشتباك، ولو السياسي فحسب، بحيث تُعيد من خلال تخليها عن سياساتها الجامدة و تستعيض عنها بانتهاج سياسات نشطة ومتحركة، تغيير المعادلة التي تسمح لأسرائيل باغتيال معظم قيادات المقاومة ومناطق كاملة في المشرق بواسطة طائراتها وصواريخها المتطورة التي حيدت أسلحة "حماس" و"حزب الله" الدقيقة وغير الدقيقىة وجعلت معظم "ميزاتها الردعية" منتهية الصلاحية عملياً. هكذا، نرى الطائرات الإسرائيلية تقوم بعمليات إغتيال متكررة في أي موقع مع أن ذلك ممنوع في القانون الدولي وهي لا تفرق بين المقاتل وعائلته أو البناء الذي يسكن فيه إذ أن العائلة ليست سوى "درع بشري" مشروع قتله في قاموسها وهي كذلك تقصف كل شيء بما في ذلك المستشفيات والمدارس والمنشآت المدنية في غزة وضاحية بيروت الجنوبية. وهذا وضع، إذا لم يوضع حد له، قد تجابهه روسيا مع أوكرانيا حالما يتم تصفية أي نفوذ في المنطقة سوى نفوذ الصهيونية- الإميركية. ونرجو- بالطبع- أن يكون تقديرنا خاطئاً...

أما إذا لم تستطع موسكو- ولا حتى واشنطن- التدخل للتخفيف من محاولة تحويل طهران إلى بغداد أخرى بعد 2003 ونشر الفوضى من المتوسط إلى الخليج، فان النظام الإيراني قد يلجأ الى تمتين تحالفه مع روسيا الإتحادية وإلى ما يعتبره المصالح الغربية الأقرب جغرافياً اليه ويعيد بشكل أكبر وأكتف الهجوم الذي شنه في أيلول 2019 على المنشآت النفطية الخليجية، الأمر الذي سيشعل اسعار النفط والغاز ويهدد الاقتصاد العالمي بأكبر الأخطار ويدخل العالم في أزمة تمتد سنوات. ولربما كان إحتمال قيام مجابهة ما بين موسكو وتل أبيب هو السبب في أن واشنطن عرضت على نتنياهو -كما جاء في الأنباء المتأخرة أمس- حزمة مساعدات مختلفة لقاء تجنب إسرائيل ضرب أهداف حساسة معينة في إيران. وكما قال أحد المعلقين الأميركيين البارزين الذي اعتبر أن نتنياهو تفوق على الرئيس الأميركي بايدن في مناوراته لاشراك الولايات المتحدة في السير بسياسته :" لقد حاول بايدن إقامة السلام لكنه إنتهى إلى تسهيل إشعال الحرب". ونرجو- بالطبع- أن يكون تقديرنا وتقدير المعلق الأميركي خاطئاً هنا أيضا. 

الأكثر قراءة

القصر الجمهوري يستعد... هل يكون 9 كانون الثاني موعداً للحسم الرئاسي؟ «الاسرائيليون» لاهالي الجولان: لن ننسحب وستخضعون للقانون «الاسرائيلي» بالتجنيد اعتراض اميركي اوروبي على العفو العام عن الإسلاميين وطلبات إخلاء السبيل رُدّت