اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

شهر تقريبا مرّ على إقرار مشروع موازنة العام 2025 من قبل حكومة تصريف الاعمال ، أي بعد أسبوع على بدء التصعيد «الإسرائيلي» الأخير ، حيث حاولت الحكومة آنذاك بت المشروع بأقصى سرعة، خصوصا أننا كنا في بداية التصعيد «الإسرائيلي» والغارات والإغتيالات. أقّرت الحكومة المشروع بدون إعطاء نسخة عنه للرأي العام ،حتى ولو أن الإعتقاد السائد أن المشروع المُقرّ قريب جدا من المشروع الذي رفعه وزير المال في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل إلى مجلس الوزراء.

التعديلات التي أجريت على مشروع الموازنة طالت بحسب تصريح وزير الإعلام زياد المكاري الذي قال أنه تمّ إعطاء تعويض إضافي بقيمة شهرين إعتبارا من 1/10/2024 إلى كافة الموظفين العاملين والمتقاعدين والعسكريين في الخدمة، وإلى المتعاقدين تعويض شهري موقت ،يوازي ضعفي الراتب الاساسي او التعويض او الأجر الشهري أو المعاش التقاعدي. كما أعلن أنه إعتبارا من 1/11/2024 يضاف الى الراتبين راتب اضافي، وإعتبارًا من 1/12/2024 يضاف الى الثلاثة رواتب راتب اضافي. ويعطى جميع الموظفين مساعدة مالية مقطوعة قدرها عشرة ملايين ليرة عن شهر ايلول وعشرة ملايين ليرة عن شهر كانون الأول.

اليوم وبعد مرور شهر تقريبا على إقرار المشروع من قبل الحكومة، يواجه هذا المشروع تحدّيات كثيرة ولعل أولها تاريخ بدء مناقشته في اللجان النيابية، وخصوصا في لجنة المال والموازنة. على هذا الصعيد، فإن الدستور اللبناني واضح من حيث أنه إذا لم يتم بتّ المشروع من قِبَلِ المجلس النيابي قبل نهاية العام الحالي، فإن الحكومة تعتمد القاعدة الإثني عشرية في الشهر الأول من العام القادم ، على أن يتمّ إعتماد المشروع إبتداء من أول شباط من العام القادم.

المُشكلة الثانية التي تواجه المشروع تطال المحتوى. فالمشروع لم يأخذ بعين الإعتبار تداعيات العدوان «الإسرائيلي» على لبنان، وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أولًا : الإنفاق الإضافي الناتج عن العدوان من نزوح ومصاريف إضافية. ثانيا : الدمار الذي طال البنى التحتية والمنازل. وثالثًا : الإنخفاض الأكيد في النشاط الإقتصادي وتراجع المداخيل.

وبالتالي، فإن الأرقام المُعلن عنها في مشروع الموازنة أصبحت بعيدة كل البعد عن واقع الأرض. حتى أن أرقام موازنة العام 2024 لم تعد صالحة نتيجة العدوان، وما خلّفه من دمار وتداعيات على المداخيل والإنفاق وإستطرادًا العجز في الموازنة.

أمام هذا الواقع، يُطرح السؤال عن جدوى دراسة المشروع من قبل لجان المجلس النيابي، هل هناك فعلا من جدوى، خصوصا أن الأولية اليوم هي لوقف إطلاق النار وإيجاد مصادر تمويل لتغطية الإنفاق الناتج عن العدوان؟

الجواب بالطبع لا جدوى فعلية، خصوصا أن الدستور يُعطي الحق للجان بخفض الإنفاق وإلغاء مداخيل فقط، فيما المطلوب إعادة وضع أرقام فعلية تعكس الواقع. وبالتالي من المنطقي القول أن على الحكومة إعادة درس المشروع وإعطائه المحتوى الأقرب للواقع، كي لا نكون في وادٍ وأرقام الموازنة في وادٍ أخر.

لكن هل الأمر بهذه السهولة؟ من الأكيد أن الأمر ليس بهذه السهولة، خصوصا أن العدوان لم يتوقّف حتى الساعة، ولا أحد يعلم مداه الزمني والجغرافي. وبالتالي لا أحد يستطيع تقدير الإنفاق والمداخيل بدقّة ، مما يعني أن مصير مشروع الموازنة مرهون بالتطورات الميدانية، التي تُشير المُعطيات إلى إستمرارها لفترة غير قصيرة. إلا أننا في دولة مؤسسات، ومن المفروض أن وزارة المال تمتلك كل الأرقام التي دُفعت حتى الساعة وكل المُعطيات ،لتقييم التداعيات المُستقبلية، وبالتالي يُمكنها إعادة تحديث الأرقام بما يتناسب ويُقارب الواقع إلى أقصى حدّ مُمكن.

لكن يبقى مُشكلة العجز وتمويله التي هي معضلة كبيرة أمام الحكومة. فالأكيد أن المداخيل التي وضعتها الحكومة لن تكفي لتغطية الإنفاق المتوقّع هذا العام والعام المُقبل. أضف إلى ذلك أن لبنان الذي أعلن تعثّره في آذار العام 2020، غير قادر على الوصول إلى الأسواق المالية العالمية، وأن المُجتمع الدولي ربط مُساعداته بإصلاحات لم تقم السلطات اللبنانية بأي منها، وأن السوق الداخلي غير متوفّر نظرا إلى تعثّر المصارف التجارية. وبالتالي لا يبقى أمام الحكومة لتمويل عجز الموازنة إلا مصرف لبنان، الذي إشترط حاكمه بالإنابة وسيم منصوري قانونا من المجلس النيابي لتمويل الحكومة.

المصرف المركزي يملك في إحتياطاته مبلغا قابلا للإستخدام يُقارب المليار ومئتي مليون دولار أميركي (بحسب تصاريح مصرف لبنان)، بالإضافة إلى الإحتياطي الإلزامي، الذي هو من أموال المودعين. فهل يتمّ إصدار قانون يُلزم مصرف لبنان تمويل الحكومة؟ هذا الأمر رهينة المساعدات الدولية، فإذا قرّرت بعض الدول مُساعدة حكومة لبنان ماليا لمواجهة العجز، تكون بذلك قد حلّت مُشكلة الحكومة، أمّا إذا رفض المُجتمع الدولي إقرار مساعدات مالية للحكومة (وهذا أغلب الظن) والإكتفاء بالمساعدات العينية، فإن مُشكلة العجز ستكون موضوع الساعة في المرحلة المُقبلة.

ما قد يُعدّل موقف المجتمع الدولي فيما يخص المساعدات المالية، هو المسار السياسي وبالتحديد إنتخاب رئيس للجمهورية، تشكيل حكومة والبدء بإنجاز الإصلاحات التي يُطالب بها المُجتمع الدولي. أضف إلى ذلك هناك شرطً أساسي برغماتي، ألا وهو آلية واضحة وشفافة لإنفاق المساعدات. على هذا الصعيد كان لافتا موقف رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، الذي طلب من نقابة المحاسبين ونقيبها القيام بتدقيق يطال المساعدات العينية التي تلقتّها الحكومة وكيفية توزيعها مع تشديده على إيصال المساعدات والعدالة في توزيعها.

يمرّ لبنان في أصعب فترة من تاريخه الحديث، والمطلوب اليوم قبل كل شيء وقف إطلاق النار وإنتخاب رئيس للجمهورية وإعادة تكوين السلطة التنفيذية، عسى أن يُشكّل ذلك بداية الخروج من النفق الذي طالت ظلمته على اللبنانيين.