اذا كنت قد كتبت عن «لحظة البرق» في أداء السيد حسن نصرالله، حين يجمع في لحظة ما أثناء خطبه العابرة للاستراتيجيات، بين الحنكة اللغوية والحنكة السياسية، كنت أقف حائرأ حول ما كنت أراه «المنطقة الملتبسة» في شخصية الشيخ نعيم قاسم، خلال حواراتي معه. أهو الثائر الذي يقف بملابسه المرقطة على الجبهة؟ أم هو الفقيه بالعمامة التي على الرأس، الذي يدخل الى ما وراء الأشياء والى ما وراء التفاصيل، حتى ليثير ذهولكَ بقراءته للوقائع وللاحتمالات. ذات لقاء قلت له «لقد بهرتني أيها الشيخ العزيز».
هوذا السيد الذي، بشخصية القائد الذي قد يكون ولد ليترعرع بين النيران، وليستشهد بين النيران. وهوذا الشيخ الذي وسط ذلك الاعصار، يخرج من المنطقة الملتبسة ليقتحم النيران.
كم بكى أخاه ورفيقه الذي لا ينسى. لكنها ليست لحظة القلب، بل لحظة النار. حين رأيناه على الشاشة بعد تلك السلسلة من الكوارث، على أمل أن نراه وجهاً لوجه، قلنا انه الرجل الذي أخذ الكثير من مزايا القائد، وهو الذي كان دوماً بأخلاقيات القائد وبدماثة القائد، الذي قلنا ساعة غيابه، لكأنه سقوط الدهر. الآن ثمة شيخ يتقن أيضاً ادارة الزلازل.
ذلك الطالب الذي كان يدرس الكيمياء بشغف، وهي احدى الطرق التي تقود الى الله. ألبرت اينشتاين وصل الى الله عبر الفيزياء، ليقول «أنا ككائن بشري النص الالهي، المعجزة الالهية». ربما هكذا فهم الشيخ نعيم الدين وفهم التاريخ، وهكذا فهم المقاومة، بين أن تكون بين المعادلة الكيميائية بكل تفاعلاتها، والمعادلة السياسية بكل تفاعلاتها. ألم يتحدث الفلاسفة العرب عن التقاطع بين التفاعلات الكيميائية في المادة والتفاعلات الثورية في الروح؟
أليس ما يحدث في الجنوب كسراً للمستحيل
ما بعد.. ما بعد.. المستحيل؟
بداية الطريق مع العمامة كانت في الانضمام الى حزب «الدعوة»، الذي كان مرشده السيد محمد حسين فضل الله. واذكر أني سألته «أيّما أهم السيد فضل الله أم الامام محمد مهدي شمس الدين»؟ أجابني «الأول في التبليغ والثاني في العقيدة».
حزب «الدعوة» الذي ما زال فاعلاً على الساحة العراقية (رئيسه نوري المالكي) كان عنصراً وعاملاً، ان على الصعيد الايديولوجي أو على الصعيد التنظيمي، في تأسيس حزب الله الذي كان عليه أن يشق طريقه الشاق بين التضاريس اللبنانية، وحيث التداخل السريالي بين لعبة الأمم ولعبة الطوائف. انها المجازفة الكبرى وسط تلك الفسيفساء. ألم يقل الكاتب المارتينيكي فرانز فانون، صاحب «معذبو الأرض»، «كثوري حقيقي، لا بد أن تقطع الجبال سيراً على الأقدام». كم من الجبال اجتازها السيد واجتازها الشيخ، ليقول الكاتب «الاسرائيلي» دافيد غروسمان الذي فقد ابنه في وادي الحجير «لكأننا أمام رجال صنعوا من... المستحيل». أليس ما يحدث في الجنوب كسراً للمستحيل ما بعد.. ما بعد.. المستحيل؟
ألف يوضاس ويوضاس
من الحقبة الجامعية، كانت شخصية الشاب الذي يُدعى نعيم قاسم في حال من الغليان، وعلى مدار الساعة. لا شك أنه تأثر بالألق الثوري في الاسلام. ولقد تمنيتُ عليه أن يشاهد فيلم باولو بازوليني «الانجيل بحسب متى»، وحيث الشخصية العاصفة للسيد المسيح، وهو عاري القدمين، لكأنه يثور على كل طرقات الجلجلة في التاريخ، وعلى كل هيكل بناه الطغاة والفرّيسيون، أيضاً أيضاً القياصرة.
كثيراً توغل الشيخ في شخصية النبي محمد. الأباطرة الرومان لم يكونوا هناك. كان هناك شيوخ القبائل الذين لايئدون البنات فحسب، العقول أيضاً. وكان هناك ألف يوضاس ويوضاس. ألا يكفي أبو لهب، ولا تكفي حمالة الحطب ؟ حتماً، السؤال عن علي في عقل الشيخ نعيم، وقال فيه المستشرق الفرنسي هنري كوربان «رجل فوق الخلافة وفوق التاريخ». مسيحيون، وتوقفوا عند صاحب «نهج البلاغة»، من جبران خليل جبران، الى ميخائيل نعيمة، وشبلي الشميّل. ثم الى بولس سلامة، وجورج جرداق، وجورج شكور، وجوزف الهاشم. انه يستوطن عقل الشيخ في مفهومه للعدالة، وفي مفهومه حتى للكائن البشري. «وتحسب أنك جرم صغير / وفيك انطوى العالم الأكبر». ما كان موضوع كبار الفلاسفة عبر القرون.
الشيخ قاسم من مؤسسي الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين في السبعينات من القرن الفائت، ليلتحق بحركة «أمل» برئاسة الامام موسى الصدر، كما ترأس «الجمعية الاسلامية للتربية الدينية»
طريق المقاومة بدأ بمشاركته في النشاطات التأسيسية لحزب الله عام 1982، لينتخب عام 1991 نائباً للأمين العام للحزب السيد عباس الموسوي، الذي اغتالته «اسرائيل» بضربة جوية في 16 شباط 1992، ليبقى الشيخ في موقعه مع انتخاب السيد حسن نصرالله أميناً عاماً، ثم أميناً عاماً في 29 تشرين الأول 1924.
الشيخ أكتسب خبرة في التعاطي
مع حركة الرياح على الأرض اللبنانية
أيام المفترق في الشرق الأوسط، في لبنان بطبيعة الحال، ثمة رجل أمامنا، وعلى خطى السيد، يجمع بين الحد الأقصى من الصلابة، وهي أكثر من ضرورية، والحد الأقصى من الواقعية، وهي أكثر من ضرورية. قطعاً الظروف الراهنة لا تقارن بأية ظروف أخرى. هنا الأعاصير التي تتقاطع في لبنان الذي وصفه هنري كيسنجر بـ "الفائض الجغرافي"، ووصفه آرييل شارون بـ "الخطأ التاريخي"، أما بنيامين نتنياهو فيرى، كضرورة ايديولوجية وكضرورة استراتيجية، ازالته من الوجود.
من هنا دور المقاومة الدفاع عن وجود لبنان، على أمل أن يعمل الشيخ نعيم بالجانب البراغماتي من تفكيره، على فتح الطريق نحو القوى اللبنانية الأخرى ولو بالمواقف، ليكون اللبنانيون يداً واحدة. وحين يقول نتنياهو، وهو الذي تقف الى جانبه أعظم أمبراطورية في التاريخ، انه يخوض «حرب البقاء»، كيف للبنانيين، كيفما كانت انتماءاتهم السياسية والطائفية، الّا يلتقوا لتكون المقاومة من أجل البقاء.
هي مهمة الجبال في هذه الأيام. ولا شك أن الأمين العام الذي أدار الخارطة الانتخابية على مدى سنوات، أكتسب خبرة في التعاطي مع حركة الرياح على الأرض اللبنانية، وهي لم تتوقف منذ حرب حزيران 1967، بل منذ أن أطلق جون فوستر دالاس، عام 1957، «مبدأ ايزنهاور» لملء الفراغ في الشرق الأوسط، ان بالفراغ أو بالخراب.
الشيخ يُدرك أيّ تاريخ ذاك
الذي يُبنى بالدماء وبالدموع
الشيخ نعيم، وكما قال لنا في حوار معه، أنه على بيّنة من كل التفاصيل في شخصية بنيامين نتنياهو، والى أين يمكن أن يصل. حتماً هناك حقبة جديدة في لبنان، بل في المنطقة، حالما تضع الحرب أوزارها. ولكن كيف ستنتهي هذه الحرب؟ قيل لنا «أنتم تعلمون مدى الدقة في أداء الشيخ نعيم. انه يرصد تفاصيل الميدان ليس دقيقة بدقيقة بل ثانية بثانية، لكأنه الآن في الخندق بين الخيام وعيتا الشعب، بين كفركلا والنبطية، وبين العديسة وشبعا»؟
ها أن الجنود «الاسرئيليين» يعودون اما بالتوابيت، أو بسيارات النجمة الحمراء. لا مجال البتة للبقاء على حفنة تراب في الجنوب. ويقال لنا لسوف ترون الشيخ في بنت جبيل، وفي المكان الذي خطب فيه السيد غداة التحرير عام 2000، وبالصوت نفسه، على أن المقاومة قامت لتبقى ما دام هناك من ينظرون الى لبنان بعيون «الحاخامات»، دون أن نغفل المهمة الشاقة للأمين العام في التعاطي مع المآسي الميتولوجية التي انتجتها الحرب.
لكن الشيخ نعيم يدرك أي تاريخ ذاك الذي يبنى بالدماء وبالدموع، اذا عدنا الى الماريشال جوكوف الذي قال عقب معركة ستالينغراد «لقد حفرنا في أرواحهم، والى الأبد ليالي العار».
حياته الآن، وقد نذر نفسه لقضايا لبنان، وهو داخل العين الحمراء أو الصفراء «للموساد»، هي كتابه الذي يضاف الى كتبه الـ 26 التي تناول فيها الكثير من مناحي الحياة في الشريعة، حيناً بأصابع الفقيه، وحيناً بأصابع الباحث. وها هو الانتقال من التنقيب في الكتب وفي الأيام، الى الوقوف منتصب القامة بين الصواعق.
لا ندري ما كان تعليق الشيخ نعيم قاسم على تهديد يؤاف غالانت باغتياله. هذا النوع من الرجال يحيا بعد الموت وبعد الحياة. هنا أرض تعشق الحياة...
يتم قراءة الآن
-
كيف نجت المقاومة؟ ولماذ يراهن قاسم على الوقت؟
-
بري ينتظر بعد اعلان موقفه... المجازر الاسرائيلية مستمرة والفتنة مستحيلة زوار موسكو: الباب الوحيد لتراجع نتنياهو الميدان وليس الدبلوماسية
-
ما يقوله الأميركيون عن ايران
-
اميركا تضغط على المسؤولين : طالما لا رئيس راهنا مددوا لعون! قاسم فتح بابا للتفاوض لكن لا دبلوماسية قبل 5 تشرين
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
23:29
غارتان جديدتان تستهدفان النبطية
-
23:28
دوي الرصاص الذي يسمع في بيروت وأطراف الضاحية الجنوبية من جهة الطيونة ناجم عن إشكال مسلح كبير داخل مخيم صبرا وشاتيلا
-
23:24
صفارات الإنذار تدوي في كفر مندا خشية تسلل طائرات مسيرة
-
23:20
غارة على حي الراهبات النبطية
-
23:16
صلية صاروخية في اتجاه تجمعات جنود الاحتلال في بلدة الخيام
-
غارة عنيفة على حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت