في الثامن عشر من كانون الاول من كل عام، يشرق على العالم اليوم العالمي للغة العربية، احتفاءً بلغة تعدّ إحدى أعظم ركائز الهوية الإنسانية والثقافية. إنها لغة الضاد، التي تفردت بين لغات العالم برونقها وبراعة تعبيرها، وصارت عنواناً للفصاحة والالهام. وقد سُمّيت بلغة الضاد لأنها الوحيدة التي احتضنت هذا الحرف النادر، الذي يعجز عن النطق به كثير من الشعوب، مما أكسبها فرادة لغوية لا تضاهى.
في المقابل، هي ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل مرآة الفكر وعزف الروح، تجمع بين الأصالة والجمال، وبين دقة المعاني وسحر البيان. إنها لغة القرآن الكريم، الذي صيغ بأسلوب يتحدى أعظم قدرات البلاغة، حيث يقول الله تعالى: "وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين" (الشعراء: 192-195). وقد وصفها ابن خلدون بأنها "أوسع اللغات ميداناً، وأكثرها تفصيلاً، وأغزرها تعبيراً".
لكن على الرغم من هذه العظمة، تشهد اللغة العربية اليوم تحديات جسيمة تُنذر بخطر تراجعها. ففي لبنان، ساهمت الإضرابات المتكررة في المدارس الرسمية، والاضطرابات السياسية والاجتماعية، في تعطيل المناهج الدراسية وإضعاف المهارات اللغوية لدى الطلاب. كما أن الحرب الأخيرة ألقت بظلالها الثقيلة على العملية التعليمية، وعمّقت فجوة الإلمام باللغة الأم. أضف إلى ذلك اجتياح التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي التي تروج لثقافات لغوية هجينة، مما أدى إلى تقلص مساحة توظيف اللغة العربية الفصيحة في الحياة اليومية.
بناء على ما تقدم، فإنّ الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية ليس مجرد مناسبة رمزية، بل هو دعوة لتجديد العهد مع لغة تحمل بين طياتها عبق التاريخ وسحر الأدب. إنها فرصة لإعادة إحياء عشق العربية بين الأجيال الجديدة، عبر إدماجها في المناهج التعليمية بطرق مبتكرة، وتحفيز الطلاب على استكشاف جمالها وسعة آفاقها. فلا لغة تنافس العربية في قدرتها على تصوير أدق الأحاسيس وصياغة أبهى المعاني، مما يجعلها تاجاً على رأس التراث الإنساني وجوهرة تتلألأ في سماء الفكر.
"لسان العرب" بين مجد الماضي وتحديات الحاضر
يوضح مصدر في وزارة التربية لـ "الديار" ان "اللغة العربية على مرّ العصور، كانت رمزًا للتفوق الثقافي والتعبير الإبداعي، ولطالما أذهلت العالم بقدرتها الفريدة على تصوير أدق المعاني وأعمق الأحاسيس بأسلوب بليغ يأسر العقول والقلوب. إنها لغة البيان والشعر، لغة العلوم والفلسفة، لغةٌ انفردت عن غيرها بتعابيرها القوية وصورها البلاغية التي لا شبيه لها. ومع ذلك، نجد اليوم أن طلابنا يعانون من ضعف واضح في كتابة موضوعات الإنشاء أو التعبير باللغة العربية كما ينبغي، مما يثير تساؤلات جوهرية عن أسباب هذا التراجع".
ويعتبر ان "من أبرز المشكلات التي تواجه "اللغة السماوية" اليوم هو الاعتماد المتزايد على الانماط اللغوية، خاصةً في التواصل اليومي وعبر الإنترنت. هذه الظاهرة التي باتت تُعرف بـ "لغة الإنترنت"، تجمع بين الأساليب المحكية وألفاظ أجنبية هجينة، مما يضعف مهارات الطلاب في التعبير الفصيح. وبالرغم من أن اللهجات المحلية هي جزء من التنوع الثقافي، إلا أن غياب التوعية بأهمية استخدام اللغة العربية الفصحى يعدّ "مشكلة المشكلات".
ويتابع "يقع العبء الأكبر على المدارس التي يُفترض أن تكون الحصن الأول لتعزيز مكانة اللغة العربية. فبدلًا من ترسيخ استخدام اللغة الفصحى، نجد أن كثيرا من المؤسسات التعليمية تتهاون في هذا الجانب، ما يجعل الطلاب غير متمكنين من هذه اللغة الأساسية التي تشكل هوية الأمة. هذا الواقع لا يقتصر على لبنان فحسب، بل يمتد إلى العالم العربي ككل".
ويقول: "من جماليات اللغة العربية أنها تتفرّد بتراكيبها النحوية وصرفها الغني، فضلاً عن قدرتها على توليد صور بلاغية آسرة. لذلك، تتميز بمرونتها وقابليتها لتقديم مفردات جديدة تواكب تطورات العصر، لكنها بحاجة إلى جهد كبير من الجهات المعنية للحفاظ على هذه الميزة. وهنا يأتي دور مجمع اللغة العربية في مصر وغيرها من المجامع اللغوية العربية، التي يقع على عاتقها مسؤولية كبيرة في تجديد المصطلحات وتعزيز حضور اللغة العربية في العلوم الحديثة والتكنولوجيا".
ويكشف ان "ما تعانيه المدارس من ضعف في مهارات الطلاب اللغوية إن دلّ على شيء، فهو يدل على وجود فجوة تعليمية وتربوية. وهذه الثغرة لا يمكن سدها إلا من خلال تضافر الجهود بين المؤسسات التعليمية وأولياء الأمور والمجامع اللغوية، لتوجيه الطلاب نحو عشق اللغة العربية وإتقانها. فكما قال الشاعر أحمد شوقي:
"إن الذي ملأ اللغاتِ محاسنًا جعل الجمالَ وسرهُ في الضادِ".
ويختم "اللغة العربية ليست فقط ماضياً مشرقاً، بل هي مستقبل يتطلب منّا جميعاً أن نعمل على صيانتها وتطويرها لتظل تاجاً يزين هويتنا الثقافية والحضارية.
تهميش خطر مقصود!
من جانبه، يؤكد نقيب المعلمين في المدارس الخاصة، نعمة محفوض، في حديثه لـ "الديار" أنّه "سواء كان هناك يوم عالمي للغة العربية أم لا، فإنّ أي دولة تحترم نفسها تحفّز طلابها على تعلم لغتها أولاً. فالطالب اللبناني الذي لا يتقن اللغة العربية لن يجد رابطاً قويّاً بوطنه، إذ نحن جزء من العالم العربي، وتشكّل معرفتنا باللغة صلة أساسية بالوطن".
ويضيف "هناك اهمال من عدة جهات، وبرأيي فإنّ وزارة التربية تقصّر في موضوع اللغات ولا تخصص له الاهتمام الكافي. إضافة إلى ذلك، تساهم وسائل التواصل الحديثة، كالأيباد والهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر، في تدهور مستوى اللغة العربية لدى الطلاب. فهم يتحدثون باللهجة المحكية وبما يُعرف بـ "لغة الإنترنت" التي تجمع بين العربية والإنكليزية والفرنسية، مما يجعلهم يشعرون بعدم الحاجة إلى اللغة العربية لأنهم يعبرون ويفهم بعضهم بعضا بلغة هجينة".
ويشير إلى أنّ "كبار الأدباء والمفكرين الذين يضعون المعاجم العربية يتقاعسون أيضاً في تحديث اللغة لتواكب تسارع العلوم والتكنولوجيا. فاللغة العربية تفتقر إلى التكيف مع هذه التطورات، مما يضطر الى استخدام مفردات أجنبية لا مرادف لها في العربية. وبالتالي، هناك حاجة الى تطوير اللغة من قبل علماء اللغة والفقهاء لمواكبة تطورات العلوم والذكاء الاصطناعي والنظم الرقمية".
ويشدّد على "ضرورة متابعة الأهل لأبنائهم، ومنعهم من قضاء وقت طويل على الهواتف الذكية. لذلك، المطلوب من الطلاب القراءة والمطالعة بدلاً من الانشغال بالأجهزة الذكية. ومن منظوري، التلميذ الذي يتقن أكثر من لغة يُعتبر كأنه أكثر من شخص واحد. على سبيل المثال، من يتقن العربية والفرنسية والإنكليزية يُعادل ثلاثة أشخاص. ومع ذلك، تبقى اللغة العربية، لغة الضاد، واحدة من أجمل لغات العالم رغم صعوبتها، فهي لغتنا الأساسية. يجب علينا أن نستخدمها بطريقة سليمة بعيداً عن 'الكَرْشُوني'".
ويختتم محفوض قائلاً: "إنّ التفريط في إتقان اللغة العربية تتحمل مسؤوليته عدة أطراف، مما يؤدي إلى تراجع اهتمامنا بلغتنا الأم التي تمثل هويتنا الأصيلة".
"العربية" ليست مجرد لغة عادية بل هي هويتنا!
من جهتها، تقول تانيا خوري، معلمة اللغة العربية، لـ "الديار": "في اليوم العالمي لـ "لغة الجمال"، من المهم أن يدرك الطالب أهمية هذه اللغة التي تمثل هويتنا وبقاءنا وإبداعنا. فاللغة العربية تحتوي في جوهرها على علوم وتراث الشعوب التي تعبر عبر الزمن، إذ إنّ الشاعر والكاتب هما مرآة لعصرهما وناقلان للعادات والتقاليد التي تمر بها الأمم، مما يجعل اللغة العربية ثقافة الشعب بامتياز".
وتضيف، "اللغة العربية ليست لغة سهلة، بل هي لغة صعبة وذات أهمية عظيمة في المجتمعات. لذلك، يجب على الطالب أن يبذل جهداً ذاتياً في تعلمها، لأن عملية التعليم تبدأ باكتشاف الحروف وطريقة النطق، مما يساعد على تحسين اللفظ ويخلق حباً للغة، وبالتالي يدفع الطالب إلى الإبداع. وهذا الابتكار يظهر في الألفاظ والصور والجمل التي نستخدمها في اللغة".
وتشير خوري إلى أنّ "دور المدرسة أساسي في تعزيز أهمية اللغة العربية لدى الطلاب، حيث تحفّزهم على إجادتها وتشعل شغفهم من خلال المهرجانات والأنشطة التي تُقام باللغة العربية. كما أنّ هناك محاولات حديثة لإدخال وسائل تقنية في عملية التعليم لتشجيع الطلاب على استخدام اللغة وتمكينهم من إجراء أبحاثهم الخاصة".
وتختم قائلة: "اللغة العربية تتفرد بثراء كبير، فهي تتضمن العديد من اللهجات داخل البلد الواحد وفي مختلف الدول العربية. وتعتبر اللهجة اللبنانية محببة لدى الشعوب المجاورة، حتى إنّ بعض الأجانب يحاولون تقليدها لتصبح أقرب الى لغتهم. وهذا يبرز جمال اللغة العربية وتنوعها، وهو ما يجب أن نفخر به".
يتم قراءة الآن
-
القصر الجمهوري يستعد... هل يكون 9 كانون الثاني موعداً للحسم الرئاسي؟ «الاسرائيليون» لاهالي الجولان: لن ننسحب وستخضعون للقانون «الاسرائيلي» بالتجنيد اعتراض اميركي اوروبي على العفو العام عن الإسلاميين وطلبات إخلاء السبيل رُدّت
-
لبنان: لا تطبيع ولكن ...
-
العلويّون ضحايا العلويين
-
"Soft landing" فرنجية : فتّش عن المحيطين "كفانا خسارة"! جنبلاط نسق مع بري وقطع الطريق على جعجع القوات تنتظر بري وناقشت كلّ الخيارات منها المقاطعة
الأكثر قراءة
-
العلويّون ضحايا العلويين
-
الانتخابات الرئاسية: الكواليس الداخلية تشتعل في سباق الحسم بري يعوّل على انتخاب الرئيس في 9 كانون 2... ودعوات للسفراء بعد الميلاد المعارضة لم تتفق على تسمية المرشح وجعجع يضغط لتأخير الحسم
-
وفد درزي سياسي – ديني في دمشق اليوم يلتقي الشرع جنبلاط سيقدّم مُذكرة حول العلاقة اللبنانيّة – السوريّة تطالب بإصلاحها
عاجل 24/7
-
11:31
الجيش السوداني يقترب من كسر الحصار على مقر القيادة العامة بالخرطوم
-
10:27
بوتين: هناك الكثير من المخاطر في المرحلة الراهنة وروسيا سترد على أي تحد
-
10:17
يديعوت أحرونوت: تقديرات المسؤول الإسرائيلي تشير إلى احتمالات كبيرة ألا تبرم صفقة التبادل قبل نهاية عهد بايدن
-
10:10
التحكم المروري: 3 جرحى في 3 حوادث سير خلال خلال الـ24 ساعة الماضية
-
09:42
المركز الألماني لأبحاث علوم الأرض: زلزال ضرب جنوب أفريقيا بلغت شدته 5.48 درجة اليوم
-
09:33
19 شهيدا في غارات "إسرائيلية" على مناطق عدة في قطاع غزة منذ فجر اليوم