اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


يحتاج الواقع السياسي المسيحي الراهن إلى مراجعة تتسم بالمسؤولية والبعد عن النظرة الحزبية له التي باتت تعاني من نزعة مرض الفصائلية الجامدة. وفي سبيل الدخول الى تبديل المناخ الآسن الذي يسود الساحة المسيحية، يجدر ضخ بعض الأفكار التي يمكنها احداث خرق في الجدار الصدىء الذي يعيش خلفه مسيحيو لبنان منذ اكثر من عقدين هما في الواقع يعتبران عمر سياسات النتائج اللاحقة التي ترتبت عن اقتتال طرفي حرب الالغاء المسيحية التي كانت سبباً في دفع البطريرك صفير للموافقة على اي اتفاق في الطائف، نظراً لكونه كان يرى مخلصاً ان المهم التوصل الى اي حل يؤدي الى إنهاء الاحتراب المسيحي البيني وبالتالي وقف نزف الدم المسيحي والتردي الشامل...

ان اول الأفكار التي تخطر لبال اي باحث مسيحي حينما يحاول التصدي لمهمة البحث في كيفية تحسين الواقع المسيحي الراهن، هي التوقف عند تجربة الشهابية السياسية التي عمدت الى توسيع القاعدة الاجتماعية للدولة المتمركزة حينذاك في بيروت وجبل لبنان (بيروت الكبرى)؛ وهذه الفكرة انتجها وجسدها مشروع الأب الكاثوليكي لويس لوبريه الممثل للمسيحية الاجتماعية (الحركة الاجتماعية التي قادها المطران غريغوار حداد آنذاك من تأثير أفكار لوبريه) وبرنامج IRFED (1958-1964) للتنمية الاجتماعية المستدامة التي كانت تجسيدا لهذا المشروع ( Lebret: Economie et Humanisme)

كانت تلك التجربة المسماة التجربة الشهابية تسعى لإنتاج حل يحرر الثروة الوطنية من التمركز في بقعة الأثرياء داخل العاصمة، ويؤدي ايضاً الى اطلاق فضاء الدولة لتصبح حياة معاشة في الأرياف والأطراف؛ وايضاً كانت (اي التجربة الشهابية) حلاً للدور المسيحي وذلك لجهة جعله مشروعاً داخل الدولة الوطنية ومن اجل تعزيز ثقة كل اللبنانيين بالدولة الوطنية، وذلك بعد انتاكسة ان كميل شمعون اخذ الدور المسيحي اللبناني ليصبح حصان طروادة داخل صراع الاحلاف الدولية المعادية لمصالح المنطقة.

الفكرة الثانية التي تحتاج الى مراجعة في اطار البحث عن حل للمأزق المسيحي الراهن، تتمثل باعادة قراءة تجربة توافق الادارة الأميركية – السعودية – السورية الذي انتج الاستقلال الثاني، او ما بات يعرف بدولة الطائف ؛ وما حدث حينها في الواقع هو انه تم بناء شبه دولة proto – state  (اي دولة مبنية بفضل الدعم الخارجي) وذلك على قاعدة وحدة الجيش والحكومة (السلطة السياسية)؛ و من ثم تم إنشاء برلمان منتخب سنة 1992 وتم العمل على انشاء اقتصاد معولم بتمويل سعودي – خليجي عمل على تحويل بيروت الى هونغ كونغ الشرق الأوسط (1993) أو مركزا" اقليميا" للشركات المتعددة الجنسيات العاملة في المنطقة. لقد نافس مشروع الحريري في بيروت الدور الاقتصادي لمرفأ حيفا وغوش دان (حيث أقيمت لاحقا "Ness Ziona (Israeli Sillicon Valley)  والمشروع الاقتصادي الاسرائيلي لجعل تل أبيب مركز سوق الشرق الأوسط Middle East Economic Market – MEEM.

يجدر التوقف هنا عند ملاحظتين هامتين؛ الأولى ان تجربة الطائف في قسمها الاول اعتبرت تجربة السنّة في لبنان نظراً لأن الطائف منح الحكومة مجتمعة ومنح رئيسها صلاحيات كانت منوطة بالرئيس الماروني. ولذلك كان دور المسيحيين في هذه التجربة هو انتظار نتائجها بأكثر من الفعل فيها.

الملاحظة الثانية وهي استكمال للأولى ومفادها انه بعد الطائف وعملية البناء المشوّهة للدولة (قاعدتها المؤسسة العسكرية كوعاء لاستيعاب الفئات الاجتماعية الريفية – قاعدة الأحزاب المشاركة في الحرب الأهلية) تراجع الدور المسيحي السياسي والاقتصادي وتصدرت السنية السياسية المشهد وتصدت لمهمة اقامة مشروع بيروت - هونغ كونغ الشرق الأوسط. وترافق ذلك مع خروج الأحزاب المارونية من العملية السياسية وشيوع الاحباط المسيحي والاستقالة من عملية بناء الدولة وادارة دولة الطائف ومؤسساتها. وادى هذا الواقع الى نشوء ترويكا متنفذة مؤلفة من رفيق الحريري – نبيه بري – وليد جنبلاط، وكان الرئيس الياس الهراوي ملحقا" بهذه الترويكا.

الفكرة الثالثة تتعلق بتجربة الرئيس اميل لحود التي كانت أول محاولة مارونية جديدة لاحداث توازن مع الحريرية السنية، وذلك بالاستتاد الى الحلف بين الجيش والمقاومة (تحالف ماروني – شيعي) المدعوم من النظام العلوي في سورية (نظرية حلف الأقليات). هذه كانت أول محاولة بعد اتفاق الطائف لانشاء دور سياسي مسيحي جديد...

ان تسلسل التجارب وفق الأفكار الثلاثة الآنفة عن الأدوار المسيحية في لبنان منذ الاستقلال حتى الآن، تحتم الوقوف عند ميشال شيحا، منظر دور لبنان الكبير، الذي اعتبر أن فرادة التجربة اللبنانية تقوم على دور البرجوازية المسيحية التجارية (المركنتيلية) المتمركزة في شرق مدينة بيروت والتي تتوسط بين اقتصاد انتاج الحرير في جبل لبنان والأسواق الفرنسية (ليون، باريس) والأوروبية. استخرج شيحا هذه النظرية رغم " أن أوروبا كانت مركز السوق الاقتصادي العالمي"؛ وحينها تمكنت النخب المسيحية من تشكيل قطاع مصرفي ناشط (مرتبط بأوروبا حتى 1964) ومن تطوير مرفأ بيروت الذي بات مرفأ اقليمياً وصارت بيروت مصرفاً ومطاراً وكازينو وجامعة ومدرسة ومستشفى المنطقة؛ وسميت بسويسرا الشرق.

والواقع ان هذه النظرية المسيحية (شيحا) حول الدور الذي امتد من الاستقلال (تبلور بعد 1952) لغاية أزمة 1975 اصطدمت تطبيقاتها مع موعد نشوب الحرب الأهلية، ما أدى الى تناقص سرعة التطور الاقتصادي – المالي – الاجتماعي مع الصيغة السياسية الطائفية للنظام الماروني؛ وقد فشلت أحزاب المارونية السياسية اليمينية المحافظة (الجبهة اللبنانية) في مواكبة الحداثة وضرورات الاصلاح، فلجأت الى العنف والحرب الأهلية للحفاظ على هيمنتها على السلطة. كما لم تتمكن المارونية السياسية المعاصرة التي مثلها الجنرال ميشال عون من تجديد الدور السياسي المسيحي (المحاولة المارونية الثانية بعد أزمة 2005 وانهيار الادارة السورية في لبنان) بالرغم من التحالف الثنائي الماروني العوني – الشيعي (حزب الله - حلف مار مخايل) لأن التيار العوني افتقد نظرية سياسية ليبني على أساسها الصيغة الجديدة للدولة والنظام السياسي.

... ربما أراد ميشال عون تغيير الطائف والعودة الى النظام الرئاسي الماروني (ولو بالممارسة)، ولقد فكّرت الشيعية السياسية في المثالثة. لقد اتفق الطرفان المتحالفان على تغيير الطائف ومواجهة الهيمنة الحريرية السنية على الحكم، ولكنهما لم يتفقا على صياغة برنامج مشترك (موحد) لتغيير النظام السياسي (نظرية بناء الدولة والصيغة الدستورية). وهنا نستنتج أن النخب المسيحية تراجع دورها وصارت عاجزة عن ايجاد مشروع سياسي ودور سياسي جديدين من دون الاتكاء على أطراف اسلامية وقوى خارجية. والحق يقال ان الدور المسيحي لم يخرج من معادلة القرن التاسع عشر وحكم الامارة في لبنان الصغير حيث أن الحكم الماروني لا يستقر من دون الاعتماد على الدعم الاقليمي – الدولي (والي عكا الجزار، والي الشام ابراهيم باشا، مصر محمد علي باشا حليف الأمير بشير الشهابي، توسكانا بالنسبة للأمير فخر الدين المعني الدرزي).

الفكرة الرابعة التي تطرح نفسها في سياق المراجعة للدور المسيحي كإشكالية وحلول، تحتم طرح مسألة فشل التيار العوني في انتاج دور سياسي مسيحي وطني جديد، وانفصاله عن حزب الله.

 ويتم طرح هذه المسألة من زاوية انه بعد هذا الفشل العوني، وايضا بعد تدهور العلاقات المارونية – السنية والمارونية – الشيعية وفشل محاولات القوات في العودة الى صيغة الجبهة اللبنانية المسيحية أو جبهة البريستول لعام 2005 المعارضة، صار واضحاً انه بات هناك عند المسيحيين تكريس "لأزمة فكر سياسي وأزمة قيادة وأزمة مشروع سياسي". أي أن هناك فراغاً في الدور السياسي المسيحي يتبعه فراغ في الدور الاقتصادي المسيحي.

... وعليه فإن السؤال بل الأسئلة اليوم، هي: هل تستطيع النخب المارونية الادعاء أن النظام البرلماني والاقتصاد الحر هما من انتاجها وحدها دون الطوائف الأخرى؟. والسؤال بل والأسئلة هي: أي صيغة سياسية / نظام سياسي يؤمن الاستقرار والاصلاح والتحديث والتنمية؟... أي عقد سياسي – اجتماعي جديد يجب أن تقاربه النخب المسيحية ؟... أي دور سياسي جديد ستؤديه؟ هل تريد توزيع الأدوار، أدوار الغبن على الطوائف الأخر؟ هل تريد أن تتخصص في دور الدفاع عن الحريات و نظام الطائف مقابل الدور المقاوم والدفاعي للشيعة والدور الاقتصادي- التجاري للسنة (سنة المدن)؟... واذا كانت الأحزاب المارونية لا تعتبر المقاومة الشيعية جزءا" من الاستراتيجية الدفاعية الوطنية وتدعو الى حصر الدور الدفاعي بالجيش، فلماذا لا تعمل على ادخال الشباب المسيحي الى الجيش اللبناني، ما دامت تدعو الى اعتماد الجيش كاطار وحيد في خطة الدفاع اللبنانية في مواجهة الخطر الاسرائيلي؟...

...هل تتبنى النخب المسيحية مشروع بكركي لاقامة دولة مدنية كبديل لمشروع دولة لبنان الكبير لعام 1920؟ أو كمشروع ماروني لمواجهة الديموقراطية العددية المقبلة، ولا سيما أن أعداد المسيحيين المقيمين تدنت الى ما دون الـ%20 ؟.

و اذا كان دور الوساطة التجارية بين الدول العربية و الغرب قد انتهى؛ فلماذا لا تهتم النخب الاقتصادية المسيحية بأسواق المشرق العربي وآسيا ودول البريكس (تنويع مصادر التجارة الخارجية)؟... هل الاقتصاد الخارجي – الاغترابي هو البديل في حل أزمة الاقتصاد الداخلي؟ ...وكيف يمكن الربط بين الاقتصادين الداخلي والخارجي بحيث نتجاوز فكرة أن تكون وظيفة الاقتصاد الخارجي هو تحويل الأموال فقط الى الداخل من أجل الانفاق الاجتماعي – العائلي؟.

كيف نشجع الاقتصاد الاغترابي في أن يستثمر في الاقتصاد الوطني المنتج؟... هذا الأمر بحاجة الى نظام سياسي – قضائي آخر. أي دور للنخب المسيحية في هذا المجال؟ علما" أن الرئيس الهراوي فشل في اقناع لبنانيي البرازيل (كمثال) لاستعادة الجنسية اللبنانية والعودة الى الوطن الأم. كما فشل مشروع باسيل لتنظيم الاغتراب من خلال مؤسسة الطاقة الاغترابية ودمجه في الحياة السياسية والاقتصادية في الوطن.

ومع التغييرات الجيو - سياسية القائمة في المنطقة و التبدلات الديموغرافية بفعل الحروب والتهجير، آن الأوان للمسيحيين بأن يفكروا في صيغة سياسية جديدة وفي دور سياسي – اقتصادي جديد.

الأكثر قراءة

مضمون ورقة الجيش يطمئن الثنائي ويرسم مسار المرحلة المقبلة خطاب مفصلي لبري في 31 آب... جعجع: للالتزام بقرارات الحكومة رفض اميركي للافراج عن ارهابيين يطالب بهم الشرع