اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

لعل الربع الأول من القرن الحادي والعشرين أسوأ زمنٍ مرّ به العرب في التاريخ المعاصر . ففي أعقاب زرع الكيان الصهيوني في فلسطين ، قلبِ المشرق العربي ، عانى لبنان ويعاني وتقاسي سوريا والعراق حروباً اهلية وإضطرابات سياسية وإجتماعية منذ سنوات . اما مصر والسودان والأردن والإمارات  العربية المتحدة واخيراً سوريا ، فقد خرجت او أُخرجت من حمأة الصراع العربي -الإسرائيلي ما عطّل جامعة الدول العربية ومعاهدة الدفاع العربي المشترك كما هدّد او كاد فعالية قوى المقاومة العربية.

للغرب الأطلسي ، الاميركي - الاوروبي ، وللكيان الصهيوني الدور الأول والأفعل في زعزعة الإستقرار في عالم العرب ، لاسيما في مشرقه ، وهما يتصارعان مع تركيا وايران على النفوذ والمصالح في منطقة غرب آسيا الممتدة من شواطيء البحر المتوسط جنوباً الى بحر قزوين شمالاً.

في مواجهة الغرب الأطلسي والكيان الصهيوني تتصدى قوى مقاوِمة عربية متعددة المذاهب والمشارب ، أقدمها تاريخاً وتجربةً المقاومة الفلسطينية بشتّى فصائلها. اقواها ممارسةً ومثابرةً المقاومة اللبنانية المتمثلة بحزب الله وحلفائه من الأحزاب القومية والإسلامية.

تعرّضت قوى المقاومة العربية اخيراً الى ضربة قاسية نتيجةَ نجاح الولايات المتحدة الاميركية ، بالتوافق مع تركيا وفصائل مسلحة سورية ،  في ممارسة ضغوط سياسية وميدانية شديدة ادت الى إنهيار النظام السياسي السوري وتنحي رأسه ، بشار الأسد ، ورحيله الى روسيا.

نجمت عن إنهيار النظام السوري وسيطرة إئتلاف لفصائل مسلحة إسلامية الهوى والهوية جملةُ تداعيات وتحديات ، لعل أبرزها وأخطرها ثلاثة :

أولاها ، تفكيك وحدة  سوريا بما هي «قلب العروبة النابض» ، كما كان يحلو لجمال عبد الناصر ان يدعوها ، الى عدّة كيانات ومناطق تسيطر على بعضها اثنتان او ثلاثة من طوائف  سوريا الست والعشرين.

ثانيتها ، قيام  «اسرائيل» بإحتلال قرى وبلدات ومواقع حاكمة في جنوب سوريا تربو مساحتها على خُمس المساحة الإجمالية للبلاد ما ادى الى تعطيل عمليات المقاومة على جبهة لبنان المواجهة لـِ»اسرائيل» في شمال فلسطين المحتلة .

ثالثتها ، نشوب صراع حاد بين الولايات المتحدة وتركيا من جهة والقوى الوطنية السورية والعربية من جهة اخرى على إعادة تشكيل سوريا دولةً وهوية وتوجّهاً حّضارياً .

هذه التداعيات والتحديات لا تشكّل تهديداً لأمن سوريا القومي وسيادتها فحسب بل للأمن القومي العربي عموماً ما يتطلّب إرتفاع القيادات المسؤولة جميعاً ، حاكمين ومعارضين ومقاومين، الى مستوى الأخطار المحدقة بسوريا كما بالأمة واتخاذ المواقف والتدابير الجدّية الكفيلة بمواجهتها  والتغلّب عليها. لذا يقتضي ان تدرك القوى الوطنية عموماً وقوى المقاومة الفلسطينية والسورية والعربية خصوصاً أنها ليست في مواجهة ضارية ضد الكيان الصهيوني العدواني فحسب بل في مواجهةٍ غير مباشرة ايضاً مع الولايات المتحدة الاميركية وحلفائها الإقليميين وأذرعتها المحليين . ذلك كله يستدعي ، في ضوء ما جرى ويجري، إستخلاص الدروس والعِبر والشروع  بلا إبطاء في وضع إستراتيجية جديدة متكاملة للمقاومة العربية ، قطرياً وقومياً ، تراعي الحقائق والمتطلّبات الآتية :

أولاً : السلاحان الأمضى ضد العدو الصهيواميركي : التفرقة والإقتصاد

تنطوي كينونة معظم بلدان المشرق العربي على تعدّدية عميقة وفاعلة ما حمل دول الغرب الأطلسي ، لاسيما الولايات المتحدة ، على إعتماد التفريق والتمزيق نهجاً لتفكيك لبنان وسوريا والعراق الى مجموعة كيانات ترسو على أسس مذهبية او أثنية أو قَبَلية وتتنازع فيما بينها فيسهل على اميركا و»اسرائيل» السيطرة عليها. الى ذلك ، حرصت الولايات المتحدة على إستخدام الإقتصاد والحصار الإقتصادي وسيلةً لإضعاف البلدان العربية المستهدَفَة. ولعل أفعل وأخطر وسائلها في هذا المجال «قانون قيصر» الذي حرّم على الدول والشركات والهيئات والأفراد التعامل مع سوريا تحت طائلة عقوبات إقتصادية وجزائية وسياسية تُفرض على المخالفين . وقد فعل هذا الإجراء العقابي فعلَه في سوريا (الى جانب الفساد المستشري) ما أفقر البلاد والعباد وحوّل جيشها ، ضباطاً وجنوداً ، الى جماعة من الجياع فاقدي الإرادة والقدرة على القتال.

ثانياً : مقاومة اميركا بالتزامن مع مقاومة «اسرائيل»

تنشط مقاومةُ «اسرائيل» حاليّاً بإشكال متعددة وبدرجات متفاوتة من الفعالية . غير ان ذلك وحده لا يكفي للحدّ من ضراوة الحرب التي يشنّها كيان الإحتلال  بدعمٍ سافرٍ من الولايات المتحدة مما يستوجب مقاومة اميركا بالتزامن مع مقاومة الكيان الصهيوني. صحيح أن الولايات المتحدة دولة كبرى قويّة وغنية ومسيطرة في أنحاء ومواقع شتى من العالم ، لكن ذلك لا يحول دون التصدي لها ومواجهتها وهزيمتها. ألم تُهزم في أفغانستان وأُضطرت الى الإنسحاب منها بصورة مهينة ؟ ألم تُضطر ، قبل ذلك ، الى سحب قواتها المحتلة من العراق  سنة 2009 تحت وطأة مقاومةٍ فاعلة ومتنامية من المقاومين العراقيين ؟ نعم ، تستطيع فصائل المقاومة العربية مقاومة اميركا ومشاغلتها في ساحات عدّة وإلحاق الأذى بها وإرهاقها. وهل من سبيل الى إلحاق هزيمة كاسحة ونهائية بالكيان الصهيوني ألاّ بنجاح الفلسطينيين والعرب بإلحاق أضرار وخسائر فادحة باميركا تشعر جرّاءها بأن «اسرائيل» باتت عبئاً ثقيلاً عليها ؟

ثالثاً : المقاومة العربية المجدية هي المقاطعة الشعبية لمنتوجات الغرب الأطلسي.

في الصراع  الجاري حاليّاً ما زال ميزان القوى مائلاً لمصلحة العدّو الصهيواميركي. ذلك يستوجب ، في ضوء التطورات الميدانية والسياسية الأخيرة  في لبنان وسوريا ، إعادة النظر بإستراتيجية قوى المقاومة العربية على نحوٍ يؤمّن التركيز ، بالدرجة الأولى ، على المقاومة المدنية . ذلك لا يعني التخلي عن المقاومة الميدانية بل إعطاء الأولوية  للمقاومة المدنية . السبب ؟ لأنه ، في حال إعتماد المقاطعة الشعبية لمنتوجات دول الغرب الأطلسي المتحالفة مع العدو، فإن مردود المقاومة المدنية يبدو أوفر وأفعل في المرحلة الراهنة من مردود المقاومة الميدانية.

لتفعيل المقاومة المدنية ، وجوهرها المقاطعة الشعبية لمنتوجات دول الغرب الأطلسي ، مسوّغات وشروط أبرزها أربعة :

(ا) إحتمالية نجاحها راجحة لأن لا قدرة البتة للسلطات الحاكمة الممالئة للعدو الصهيواميركي أن تملي على المواطنين وسائر السكان رغبات وأذواق دون غيرها ما يتيح لهم حرية واسعة في شراء منتجات معينة او الإمتناع عن شراء وإستهلاك منتجات اخرى.

(ب) إن من شأن المقاطعة الشعبية للمنتجات الأجنبية عموماً تشجيع المنتجات الوطنية وتسويقها وإستهلاكها ما يعزّز الإقتصاد الوطني .

(جـ) إن فعالية حملة المقاطعة الشعبية لمنتجات دول الغرب الأطلسي الممالئة للعدو الصهواميركي تتوقف على مدى إتساعها الأمر الذي يستوجب ان تكون فعالياتها ناشطة على مستوى عالم العرب برمته .

(د) كلّ ما تقدّم بيانه يستوجب ان تكون لحملة المقاطعة الشعبية  المطلوبة هيئة عربية بقيادة متفرّغة وقيادات قطرية لأفرعها الممتدة على مدى عالم العرب ، شريطة ان تكون كلها مستقلة تماماً عن السلطات الحاكمة ومصمِّمة على الصمود والمثابرة.

ان عدم الإستهانة بأهمية المقاطعة الشعبية لمنتجات الدول الممالئة للعدو الصهيواميركي  مردّه  الى ان  لدى عالم العرب طاقات بشرية مليونية مستهلِكة لملايين الأطنان من مختلف أصناف المنتجات الأجنبية تدّر على صانعيها ومسوّقيها الأجانب ودولهم من المداخيل وحصيلة الضرائب تريليونات الدولارات ما يعزز كثيراً قدرات العرب على مواجهة العدو والتغلّب عليه ، سيّما وان الولايات المتحدة ومعظم دول اوروبا الغربية تشكو من تداعيات سلبية عالية  التكلفة لمفاعيل التضخم inflation وإنعكاسها على إقتصاداتها المنهكة.

عسى ألاّ يفوّت المقاومون والنهضويون العرب على فلسطين وشعوب الأمة هذه الفرصة الثمينة.

الأكثر قراءة

كيف أبعد تيمور و"المملكة" جنبلاط الأب عن بري وميقاتي!