اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


في حين أن دولة إسرائيل هي دولة ذات أغلبية مطلقة من الطائفة اليهودية، مما يجعلها دولة عنصرية وانعزالية ودولة Apartheid تحكمها حكومة يمينية متطرفة لا تؤمن بحقوق الفلسطينيين، بل لا تعترف حتى بوجودهم سواء في غزة أو الضفة الغربية، ولا تؤمن بيسوع المسيح، نجد في المقابل جمهورية لبنانية تقوم على التنوع والتعددية. إسرائيل، التي أُعطيت شرعية وجودها بموجب القرار 69 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 4 مارس 1949، تتجاهل اليوم، بكل وقاحة، أي قرار صادر عن الأمم المتحدة أو مجلس الأمن.

على النقيض من هذا النموذج الانعزالي، يشكل لبنان مثالًا للثراء الطائفي والثقافي. لبنان جمهورية تتألف من طائفتين رئيسيتين هما المسيحية والإسلامية، إلى جانب 18 مذهبًا موزعين بينهما. هذا التنوع يعكس عمق الثقافة والتقاليد التي جعلت من لبنان كيانًا نهائيًا منذ تأسيسه كـ"لبنان الكبير" قبل حوالي 105 سنوات. يُعتبر لبنان مجتمعًا متعدد الطوائف، مع خمس طوائف كبرى هي الموارنة، السنة، الشيعة، الروم الأرثوذكس، والدروز، بالإضافة إلى 13 مذهبًا آخر، رغم أن عدد السكان يتركز في الطوائف الأساسية.

يقول المؤرخون إن أصول الشعب اللبناني تعود إلى الكنعانيين (حوالي 1200 سنة قبل الميلاد) والفينيقيين (حوالي 500 سنة قبل الميلاد). وقد أجرت مؤسسة أميركية مرموقة، وهي National Geographic، دراسة جينية شملت شريحة واسعة من اللبنانيين من مختلف الطوائف والمناطق، وتوصلت إلى أن حوالي 90% من الجينات اللبنانية تتطابق مع جينات الفينيقيين والكنعانيين.

في عام 1943، نال لبنان استقلاله عن فرنسا، وتأسست الميثاقية الوطنية التي أعطت رئاسة الجمهورية للموارنة، كونهم الطائفة الأكثر عددًا آنذاك، ورئاسة مجلس الوزراء للسنة، ورئاسة مجلس النواب للشيعة. هذه التركيبة، التي عُرفت بـ"المارونية السياسية"، منحت الرئيس الماروني أغلبية الصلاحيات التنفيذية، مثل حل مجلس النواب، في حين كانت صلاحيات رئيس مجلس النواب الشيعي تقتصر على إدارة شؤون البرلمان. هذا التوزيع كان يعكس توازنًا دقيقًا يهدف إلى الحفاظ على السلم الأهلي في ظل التنوع الطائفي.

هذا التنوع والإختلاط اللبناني بين الطوائف والمذاهب والإثنيات والتقاليد، إذا ما أُحسن تنظيمه، يُشكل ثروة حقيقية. بالإضافة إلى موقعه الجغرافي الاستراتيجي، جعل لبنان صلة وصل بين الغرب والشرق، على عكس ما يحدث في إسرائيل التي تتسم بالانعزال والانغلاق والتطرف. يُقال إن عظمة الإمبراطورية الرومانية بُنيت على التنوع الكبير في الثقافات والمعتقدات والتقاليد، ما جعلها تدوم أكثر من 900 سنة. وينطبق هذا الوصف، وإن بحجم أصغر بكثير، على لبنان. لقد رأينا بأم أعيننا التلاحم بين مكونات الوطن، لا سيما خلال العدوان الإسرائيلي على الضاحية والجنوب والبقاع، حين فتحت الطوائف الأخرى قلوبها لاستقبال النازحين من الطائفة الشيعية رغم الخلافات السياسية والدينية والعقائدية.

تطور الإنسان، وخاصة تطور عقله وتفكيره، مرتبط بالاختلاط بجماعات مختلفة. فلا أحد يستطيع الادعاء بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، فالحقيقة الكاملة لا يعلمها سوى الله.

لبنان، الذي كان يُعرف بـ"سويسرا الشرق"، استفاد من تنوعه وانفتاحه على الشرق والغرب. لكن لعنة الجغرافيا ألقت بظلالها عليه. ألم يقل هنري كيسنجر في عام 1974 إن لبنان "خطأ جغرافي"؟ منذ النكبة عام 1948 وتهجير أكثر من 500 ألف فلسطيني إلى لبنان، أصبحت أرضه مسرحًا للحروب الفلسطينية-الإسرائيلية، خاصة بعد اتفاق القاهرة الذي فتح المجال لنقل الصراع إلى الأراضي اللبنانية.

بعد حرب 1967 وحرب 1973، قررت إسرائيل نقل الحرب إلى الخارج، وبدأ الموساد يخطط ويوجه ويمول الأنشطة التي تستهدف لبنان. الكيان اليهودي العنصري لم يناسبه أن يكون إلى شماله دولة وصفها البابا القديس يوحنا بولس الثاني بأنها "بلد الرسالة بين الأديان". ومن خلال وصفه هذا، أراد البابا أن يوجه رسالة محبة وتسامح للعالم كله، من خلال لبنان.

منذ البداية، سعت إسرائيل إلى تقسيم لبنان وسوريا والعراق إلى كيانات طائفية تسيطر عليها عسكريًا واقتصاديًا. لكن هذه الدول الثلاث صمدت بفضل تاريخها العريق وبعض قادتها الذين واجهوا هذا المخطط الخبيث بوحدة شعوبهم، دبلوماسية فعالة، ودعم من دول حليفة مثل فرنسا، السعودية، الاتحاد الأوروبي، روسيا، وإيران. ومع ذلك، جاءت هذه المواجهة بثمن باهظ من الحروب وآلاف الشهداء.

بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان وغزة، تغيّرت الكثير من المعادلات. إسرائيل فشلت في القضاء على حزب الله كما توعد نتنياهو وغالانت. أما في غزة ولبنان، فالمعادلة باتت مختلفة. اليوم، هناك معلومات مؤكدة من واشنطن بأن ترامب سيفرض عقوبات اقتصادية ومالية صارمة على إيران، بينما يُشترط على لبنان، ضمن صندوق دولي لإعادة الإعمار بقيمة 12 مليار دولار، أن يعيد ترسيم الحدود مع إسرائيل، يتفق على هدنة طويلة، وينفذ القرارات الدولية، مع نشر 15 ألف جندي لبناني جنوب الليطاني.

المطلوب اليوم هو التركيز على المقاومة الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية، مع بناء جيش قوي عبر تجنيد المزيد من العناصر، والحصول على دعم عسكري نوعي من الحلفاء. يجب أيضًا تنفيذ اتفاق الطائف بالكامل، بما في ذلك اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، والتفكير بجديّة في تطوير النظام السياسي بما يتلاءم مع العصر.

أما إسرائيل، فقد فشلت في تقسيم لبنان وستبقى دولة انعزالية، تعيش على الدعم الأميركي العسكري، بدون فكر أو رؤية.

 

الأكثر قراءة

هذه الكلفة المتوقّعة للحرب في حال تجدّدها