فرح اللبنانيون بإنتخاب العماد جوزاف عون رئيسا للجمهورية مع ما يُعطيه شخصه ومسيرته، وهو القادم من كنف الجيش، من ثقة للبنانيين وللخارج. ويُمكن الجزم أنه لو كانت الصلاحيات التنفيذية كلها في يد الرئيس، لكانت مشاكل لبنان حُلّت في أشهر. إلا أنه وبعد إتفاق الطائف ونقل صلاحيات كثيرة من رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء مُجتمعًا، أصبحت المُهمّة أصعب مع توزيع المسؤوليات وتضارب المصالح بين القوى السياسية، وإعتماد بعضها مبدأ التعطيل للوصول إلى مبتغاها.
ولعل التحدّي الأول الذي يواجه عهد الرئيس جوزاف عون، هو تشكيل سريع لحكومة أصيلة تبدأ ورشة إعادة إحياء لبنان. فالتضارب في أولويات الأحزاب السياسية تفرض على رئيس الجمهورية إعتماد منهجية مُعقّدة في إدارة هذه الأوليات، في ظل نظام طائفي ومُحاصصة قوية. ولمّ يُعدّل تغيير موازين القوى على الساحة الإقليمية في عمق الإنقسامات السياسية، حتى ولو أن الإجماع على شخص الرئيس جوزاف عون كان سيدّ الموقف في 9 كانون الثاني 2025.
وكما أشار الرئيس جوزاف عون في خطاب القسم، فإن دوره هو دور الحكم العادل بين مُختلف القوى، وعلى مسافة واحدة من الجميع، مع أولوية الحفاظ على مصالح اللبنانيين. من هذا المُنطلق وبحسب العناوين التي طرحها في خطاب القسم، يُمكن له إعتماد إستراتيجيات مُتعدّدة مُتسلّحًا برأي عام داخلي مؤيّد له، ودعم دولي وعربي يُساعد في المهام الصعبة. إلا أنها – الإستراتيجيات – تتطلّب عناية كبيرة بحكم التوازن السياسي القائم، ومصالح الأحزاب السياسية المُتجّذرة في عمق الحياة العامة والسياسية.
يبقى الحوار والتفاوض هو أساس العمل في المرحلة المُقبلة بحكم ضرورة الإلتفاف حول الخيارات، التي وضع رئيس الجمهورية خطوطها العريضة في خطاب القسم، وبالتالي عليه إيجاد مساحة مُشتركة بين القوى السياسية حول هذه الخيارات وتطمينها من خلال دوره كحاكم عادل.
على هذا الصعيد، يأتي دور رئيس الجمّهورية للدفع بإتجاه حكومة تلتزم تطبيق خطاب القسم، الذي ألقاه والذي حاز على 99 صوتًا من أصل 128 في المجلس النيابي. ولا يجب الوقوع في فخّ حكومة مُحاصاصات تكون صورة مُصغّرة عن المجلس النيابي، تضيع من خلالها المسؤوليات. ويتوجّب في هذه الحالة – كما نصّ الدستور اللبناني – التعاون بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المُكلّف لتشكيل حكومة تعكس المُعطيات القائمة، وتُطَمْئِنّ القوى السياسية، وتُعزّز الإنسجام الوطني، وفي نفس الوقت قادرة على تنفيذ خطاب القسم.
تنفيذ خطاب القسم الذي لاقى ترحيب مُختلف القوى السياسية، حتى لو إختلفت الأولويات فيما بينها، يبدأ بتنفيذ الإصلاحات تدريجيا وبالأولية التي وردت في خطاب القسم، مع الأخذ بعين الإعتبار مُتطلبات المُجتمع الدولي والأولويات التي تحظى بتوافق بين القوى السياسية. ولعل البدء في الإصلاحات التي تفتح باب المُساعدات الدولية، هي التي يجب التعامل معها في الدرجة الأولى وعلى رأسها بالطبع الإصلاحات الإقتصادية، وتطبيق القرارات الدولية ، ومُحاربة الفساد، ووقف التهريب والتهرّب الضريبي، وإقتصاد الكاش... ولهذا يتوجّب الإستفادة من الدعم الدولي (Momentum) الحالي الذي يُمكن إستغلاله بطريقتين: من باب الضغط على القوى السياسية المُحلّية ومن باب الدعم المالي.
ويُشكّل التعافي الإقتصادي نُقطة يُجمع عليها كل اللبنانيين من أحزاب وشعب. وبالتالي يتوجّب البدء بهذا الشق بالتوازي مع أي إجراءات أخرى للحكومة الجديدة. ويأتي قانون إعادة هيكلة القطاع المصرفي معطوف عليه بقانون كابيتال كونترول (للجم إقتصاد الكاش) على رأس هذه الأولويات ، نظرا إلى حساسية هذا الملف، خاصة أنه يتعلّق بأموال المودعين التي أصرّ رئيس الجمهورية في خطاب القسم الحفاظ عليها.
يُمكن لرئيس الجمهوّرية الإستناد إلى إستراتيجيات عديدة أو مزيج من إستراتيجيات لإدارة المرحلة القادمة قائمة على دعائم علمية قوية نذكر منها:
نظرية التعددية التي تدعم بناء التحالفات والتفاوض بين الأحزاب السياسية أو مجموعات المُجتمع المدني. وهنا يأتي دور رئيس الجمهورية كمُسهّل ووسيط بين هذه القوى.
نظرية النخبة التي تفرض على رئيس الجمهورية التعاطي مع النخب السياسية والإقتصادية، لدفع الإصلاحات وتأمين الإستقرار الأمني والسياسي والإقتصادي.
نظرية العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن تضمن حقوق ورفاهية هذا الأخير، من خلال تحسين الخدمات العامة والوضع الإقتصادي.
نظرية المؤسسات التي تُركّز على كيفية تشكيل المؤسسات، لتحسين السلوك السياسي وإدارة الخلاف بشكل أفضل، أو تقديم آليات جديدة لإتخاذ القرار ، وهو ما تطّرق إليه الرئيس في خطاب القسم من خلال طرحه المداورة مثلًا.
نظرية الاختيار العام التي تُطبّق مبادئ الاقتصاد على علم السياسة، من خلال المنافسة على تقديم الأفضل للمواطنين مُقابل جذب أصواتهم.
بالإضافة إلى الكثير من النظريات الأخرى كنظرية الصراع، ونظرية الاختيار العقلاني، ونظرية التدريجية، ونظرية الأنظمة.
ولضمان نجاح وفعّالية الإستراتيجية المُعتمدة في ظل تضارب وتباعد أولويات القوى السياسية، يُمكن وضع مؤشرات لقياس تطور إدارة المرحلة المُقبلة. من هذه المؤشرات، يُمكن ذكر: مؤشرات الإستقرار السياسي كسرعة تشكيل الحكومة وتجانسها، والإنتاجية التشريعية ونوعيتها، والمؤشرات الإقتصادية، والمؤشرات الإجتماعية، والرأي العام، وحلّ الصراعات بين القوى السياسية، والعلاقات الدولية، ومؤشرات الفساد والحوكمة الرشيدة، وحرية الإعلام.
ولكي لا يبقى كل هذا في إطار نظري بحت، قمنا بأخذ عينة من أهم المواضيع (على سبيل الذكر لا الحصر): إستقلالية القضاء، تطبيق القرارات الدولية، مُكافحة الفساد، اللامركزية الإدارية، العلاقات الدولية والعربية، أموال المودعين، الإصلاح المصرفي، الإصلاح الإقتصادي، إعادة الإعمار، مكافحة التهريب، مكافحة الممنوعات، مكافحة التهرّب الضريبي. هذه المواضيع ليست بمُستقلّة عن بعضها البعض ومنها ما هو رهن الآخر. وبالتالي هناك أولويات منطقية تفرض نفسها مثل إستقلالية القضاء، التي تُعتبر أولوية الأولويات في دولة القانون، وبها تتعلّق نقاط أخرى مثل مكافحة الفساد، ومكافحة التهريب والتهرب الضريبي وتجارة الممنوعات، وأموال المودعين والإصلاح المصرفي. أيضا هناك تطبيق القرارات الدولية التي بها تتعلّق المُساعدات الخارجية والإصلاح الإقتصادي وعودة الإستثمارات.
رغبات القوى السياسية وأولوياتها تختلف فيما بينها، لكن يجب على رئيس الجمهورية من منطلق موقعه كرئيس للدولة الدفع بإتجاه الأولويات الأساسية التي تُشكّل شرطًا للأولويات الأخرى. هذا النموذج وضعناه في برنامج (Python Program)، وتوصلّنا إلى أنه يُمكن التوصّل إلى التوافق على الأولويات وطريقة تنفيذها مع خارطة طريق، من خلال تحديد الأهداف المُشتركة، وإعتماد الشفافية والشمولية في الحوار، وتقديم التنازلات والضمانات (أنظر إلى الرسم البياني). بالطبع هناك فرضيات على نسبة المرونة لكل قوّة سياسية والتي بدونها سيكون هناك تصادم وعودة إلى الوراء.
في الختام، هناك منهجيات علمية وأدوات عمل يُمكن الإستفادة منها في هذه المرحلة، حيث أن أمام لبنان فرصة كبيرة للخروج السربع من الأزمة التي يتخبّط بها. لكن كل هذا يحتاج إلى تعاون ومرونة من قبل كل القوى السياسية، تحت طائلة إطالة أمد الأزمة ، مع ما لذلك من تداعيات كارثية على هيكلية الكيان اللبناني على المدى البعيد.
يتم قراءة الآن
-
كيف أبعد تيمور و"المملكة" جنبلاط الأب عن بري وميقاتي!
-
عون: انكسار اي طرف انكسار للبنان وسلام: لا اقصاء الثنائي الشيعي يوازن بين المواقف: مشاركة مرهونة بالتوافق الوطني بيطار يُحيي ملف المرفأ وتحذيرات من «دعسة ناقصة» في توقيت حساس
-
كرة النار أمام القصر وأمام السراي
-
مَن جاء بنواف سلام وأطاح بميقاتي... وما هي حكاية سيناريو الليل والفجر ؟ كيف انقلب الملتزمون على وعودهم؟ وما هي اجواء الإشارات الخارجيّة ؟
الأكثر قراءة
-
عون: انكسار اي طرف انكسار للبنان وسلام: لا اقصاء الثنائي الشيعي يوازن بين المواقف: مشاركة مرهونة بالتوافق الوطني بيطار يُحيي ملف المرفأ وتحذيرات من «دعسة ناقصة» في توقيت حساس
-
كرة النار أمام القصر وأمام السراي
-
مَن جاء بنواف سلام وأطاح بميقاتي... وما هي حكاية سيناريو الليل والفجر ؟ كيف انقلب الملتزمون على وعودهم؟ وما هي اجواء الإشارات الخارجيّة ؟
عاجل 24/7
-
17:18
هيئة البث الإسرائيلية: نتنياهو يعقد اجتماعا تشاوريا بعد قليل بخصوص صفقة التبادل
-
16:55
النائب فيصل كرامي من مجلس النواب: الرئيس المكلف مشهود له بالكفاءة والنزاهة وعلينا التأقلم مع الوضع الجديد ومواكبة المرحلة بالكثير من الانفتاح والأهم عدم كسر أو عزل أي أحد ولا تحمينا إلا خيمة الدولة اللبنانية والدستور
-
16:53
قصف مدفعي لأطراف كفرشوبا وتوغّل باتجاه بلدة مارون الراس
-
16:50
وسائل إعلام إسرائيلية: مئات يتظاهرون قبالة مقر إقامة نتنياهو في القدس للمطالبة بإبرام صفقة شاملة
-
16:35
حركة المرور كثيفة على اوتوستراد المطار باتجاه خلدة
-
16:32
حركة المرور كثيفة من بوليفار بيار الجميّل باتجاه الكرنتينا