اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

منتشيا بنجاح "ملحمي" في السباق على الرئاسة ورجوعه إلى البيت الأبيض، يعيد الرئيس دونالد ترامب في خطاب التنصيب المحاور السياسية المقلقة التي لطالما تبناها، لكن بنبرة أشد وقعا وأكثر وضوحا، تسكنه هواجس العظمة الأميركية التي يريد استعادتها والصفقات الاقتصادية التي يعتزم الفوز بها، ولا يفرق في ذلك بين حليف ومنافس.

وتشير تلك العودة الصاخبة للرئيس الملياردير -الذي تحدى عزله مرتين وقضايا جنائية عديدة ومحاولتي اغتيال- للسلطة إلى عصر جديد من التحولات السياسية في الداخل الأميركي والاستقطابات الخارجية، التي قد تنشب جراء رؤية توسعية، كما يراها محللون، حفلت بها تصريحاته الأخيرة حتى قبل التنصيب.

جدد ترامب دعوته إلى "استعادة" قناة بنما من الصين -ربما من خلال القوة- كما قال أثناء توقيعه على أوامر تنفيذية في اليوم الأول من ولايته الثانية، وأكد أيضا أن بلاده بحاجة إلى السيطرة على جزيرة غرينلاند، لضمان الأمن الدولي، وفق تعبيره.

بين التحالف والتبعية

يواجه حلفاء الولايات المتحدة حالة من عدم اليقين والحيرة في كيفية إدارة العلاقات مع الولايات المتحدة ورئيسها ترامب، الذي يسعى إلى تغيير جذري في السياسات الأميركية، وهو يؤسس لمبدأ "أميركا أولاً"، وعلوية المصلحة الاقتصادية الصرفة والمنطق الاستعلائي، بما يقوض "القيم المشتركة" التي بنيت عليها الشراكات أو التحالفات التي نشأت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في سياق "النظام الليبرالي العالمي"، كما يشير تحليل لموقع بلومبيرغ (21 كانون الثاني)

وإضافة إلى التهديد المباشر بالضم، الذي شمل كندا وجزيرة غرينلاند التابعة للدانمارك العضو في حلف شمال الاطلسي (الناتو)، وإعادة شراء قناة بنما أو الاستيلاء عليها، يمارس ترامب ضغوطا على أوروبا الحليفة بالتهديد بفرض رسوم تجارية عالية والإلزام بشراء البضائع الأميركية بما فيها النفط والغاز، والتهديد بالانسحاب من المعاهدات والاتفاقات التي ربطت بين الحليفين طويلا.

ومع كل التصريحات التي يطلقها، وكذلك مستشاره الملياردير إيلون ماسك، تخشى أوروبا من ارتداد ترامب على نظام العلاقات الراسخ بينها وبين الولايات المتحدة منذ عقود، وتملصه من الالتزامات والأطر التاريخية المؤسسة لها، مثل حلف الناتو في سياق سياسة الانكفاء وصراعه مع خصوم مثل الصين وروسيا.

ويرى محللون أوروبيون أن ترامب كان أكثر صراحة في توجهاته، لكن واشنطن كانت تتصرف دائما بخلفية كونها أنقذت أوروبا من نفسها خلال الحرب العالمية الثانية، ثم أعادت بناءها وتشكيلها (أوروبا الغربية) عبر مشروع مارشال منذ عام 1948 (قدرت تكاليفه بنحو 13 مليارا دولار)، ووفرت لها مظلة حماية أمنية وعسكرية خلال الحرب الباردة، (وراهنا خلال الحرب الروسية على أوكرانيا)، وورثت أيضا إمبراطورياتها الكبرى المنهكة (بريطانيا وفرنسا)، وباتت زعيمة لما كان يعرف "بالعام الحر".

فعندما تشكل الصراع الدولي في عصر الحرب الباردة على أسس أيديولوجية وباتت واشنطن تقود النظام الليبرالي العالمي، مقابل قيادة الاتحاد السوفياتي للمعسكر الشيوعي، كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى المجال الأوروبي لحماية نفسها ومصالحها أولا، ولحاجاتها العسكرية والسياسية وللدفاع عن القيم التي كانت تمثلها.

وبشكل ما، بقيت أوروبا الغربية في خانة التابع، كما كانت أوروبا الشرقية للاتحاد السوفياتي في ذروة الصراع بين معسكرين ونموذجين، ولم تنجح محاولات الزعيم الفرنسي شارل ديغول (1959-1969) الخروج من المظلة الأميركية وانفصال بلاده عن القيادة العسكرية لحلف الناتو عام 1966، والذي رأى "فيه منظمة تُخضع أوروبا للأميركيين".

ورغم سعي أوروبا لبناء اتحاد وتوسيعه ونهاية الحرب الباردة بسقوط الاتحاد السوفياتي بقيت عمليا تحت المظلة العسكرية والسياسية الأميركية، وكانت الحرب بين روسيا وأوكرانيا اختبارا صعبا لوحدتها رغم الدعم الأميركي، وبالنتيجة شهدت تراجعا في مكانتها وتدهورا لأوضاعها الاقتصادية وانقسامات بين أعضائها وصعودا للتيارات اليمينية والشعبوية المناهضة للاتحاد الأوروبي نفسه، الذي فشلت دوله في تحقيق الاستقلال الأمني والإستراتيجي عن واشنطن.

وعمليا تعيش الاقتصادات الأوروبية وخصوصا الاقتصاد الألماني، وهو قاطرة الاقتصاد الأوروبي، وضعا صعبا بفعل التكاليف الضخمة التي تتكبّدها مقابل دعمها لأوكرانيا أو جراء ارتفاع أسعار الغاز بعد توقف الغاز الروسي، ونظرا للانجرار الأوروبي المستمر خلف السياسات الأميركية -بما فيها حروبها وعقوباتها الاقتصادية على الدول- وهو ما يسبب خسائر كبيرة لأوروبا، مقابل مكاسب أميركية.

خرائط جديدة

وإضافة إلى الحليف الأوروبي، يجد جيران وشركاء آخرون -مثل كندا والمكسيك وبنما- أنفسهم في موقف تحد ومواجهة تحت التهديد مع زعيمة "العالم الحر" بقيادة دونالد ترامب، المتحلل من التاريخ والأيديولوجيا لفائدة المصالح.

وترى صحيفة "بوليتيكو" الأميركية أن التوجهات التوسعية للرئيس ترامب "غير مسبوقة إذ تضمنت خططا طموحة للسيطرة على مناطق إستراتيجية في نصف الكرة الغربي، في خطوة تذكر بالسياسات التوسعية التقليدية للقوى العظمى".

وترتبط توجهات ترامب ودوافعه، والتي جاءت بخطاب حاد غير معهود تجاه الحلفاء، بضرورات الأمن القومي الأميركي، والصراع على طرق التجارة والممرات البحرية ومنابع الطاقة والثروات، سواء في خليج المكسيك أو تلك المفترضة والقطب الشمالي (بما فيها غرينلاند)، وهما منطقتان مرشحتان للعسكرة والصراع في السنوات المقبلة، لا سيما مع الحضور الصيني والروسي.

وبحسب "بوليتيكو"، يراوح ترامب في التعامل مع الملفات الخارجية بين التهديدات الصريحة بالتدخل العسكري والمناورات الدبلوماسية، بما يعكس أجندة تعطي الأولوية للهيمنة الأميركية على المسرح العالمي.

وتعكس تهديدات دونالد ترامب بـ"الاستيلاء" على كندا وغرينلاند وقناة بنما -رغم كونها قد تكون مجرد ضغوط تفاوضية- نزوعا للبحث عن المجال الحيوي، الذي كان أساس السياسات الاستعمارية القديمة، التي ارتكزت على المنافع الاقتصادية والبحث عن الثروات.

ووفقا للمحللين فإنه حتى لو لم ينفذ ترامب تهديداته، واستعمل القوة الناعمة لتحقيق أهدافه فقد أثار انقساما شديدا وخوفا بين حلفائه قبل منافسيه، في حين ستظل طموحاته التوسعية حتى على حساب الحلفاء ترسم خرائط جيوسياسية جديدة، اتضحت ملامحها حتى قبل وصوله إلى البيت الأبيض.