اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


في ظل الأزمات المتعددة التي يمر بها لبنان، يبرز قطاع شركات الترابة كواحد من أبرز المخاطر، التي تهدد ليس فقط البيئة والصحة العامة، بل أيضاً النظام الاقتصادي والقانوني في البلاد. هذه الشركات، التي لطالما كانت محوراً للجدل، تحولت إلى مصدر رئيسي للضرر البيئي والاجتماعي في العديد من المناطق اللبنانية. وفي مقابلة حصرية مع "الديار"، وجه منسق لجنة كفرحريز البيئية جورج العيناتي، تحذيرات شديدة اللهجة حول القرار رقم 56 الصادر عن حكومة ميقاتي في 4 ديسمبر 2024، والذي يتيح لشركات الترابة استخراج المواد الأولية اللازمة لصناعة الاسمنت لمدة سنتين بشكل استثنائي. قرار يُعتبر بمثابة قنبلة موقوتة تهدد صحة المواطنين وبيئة لبنان، ويكشف عن شبكة معقدة من الفساد والمحاصصة السياسية، التي تستغل الأزمات لمصلحة قوى متنفذة.

القرار المشبوه... بين الفساد والمحاصصة

أوضح العيناتي أن هذا القرار جاء في وقت حساس جداً، حيث رفع سعر الاسمنت بشكل جنوني في السوق اللبنانية. وأشار إلى أن هذا الارتفاع غير المبرر في الأسعار، الذي وصل إلى مستويات غير معقولة، يشير إلى وجود شبكة مصالح تربط الشركات المهيمنة في هذا القطاع ببعض السياسيين، مما يؤدي إلى محاصصة في الأرباح على حساب المواطنين. فبينما يبلغ سعر الاسمنت المستورد أقل من نصف سعر الاسمنت المحلي، تأتي هذه الزيادة المفرطة لتكشف عن الفساد المستشري في هذه الصناعة، والذي يستفيد منه القلة بينما يتحمل الشعب اللبناني العبء الأكبر.

وبهذا المعنى، يضيف ان هذا القرار لم يكن مجرد مسألة اقتصادية أو بيئية، بل كان جزءاً من عملية فساد واسعة، تهدف إلى تمكين قلة من السياسيين والتجار من التحكم في سوق الاسمنت لمصلحتهم الشخصية.

إعادة فتح المقالع... تدمير بيئي وقتل صحي

لكن الأخطر من ذلك ،هو التأثير البيئي والصحي لهذا القرار. فعلى الرغم من محاولات التبرير بأنه جاء بهدف إعادة إعمار ما دمره العدوان "الإسرائيلي"، يرى العيناتي أن هذه الحجة ما هي إلا ذريعة لتمرير مصالح الشركات الكبرى على حساب حياة اللبنانيين، وان هذا القرار ليس من اجل اعادة اعمار ما دمره العدوان "الاسرائيلي"، بل هو استمرار للعدوان "الاسرائيلي" وتوسيع دائرته الى مناطق جديدة من لبنان ، وتحقيق ما عجز عنه العدو من تدمير لطبيعة لبنان الخضراء، وقتل من تبقى من أهله بغير الرصاص والقنابل، بل بالسرطان وأمراض القلب والامراض الصدرية والوراثية الرهيبة واغتيال بيئتهم.

"الواجب الوطني والإنساني والطريق الصحيح لاعادة اعمار ما دمره العدوان" حسب العيناتي، هو استيراد الاسمنت الخالي من المواد السامة، بدلاً من استكمال تدمير البيئة وتسميم الناس بالمواد الملوثة التي تنتجها هذه الشركات". فالمقالع التي تعمل بها شركات الترابة في لبنان ليست كغيرها من المقالع، فهي تستخرج الصخور الكلسية التي تحتوي على مواد سامة مثل الكبريت والزئبق والكروم والنيكل، ثم تحرق هذه المواد باستخدام الفحم الحجري والبترولي، مما يؤدي إلى انبعاث غازات سامة تحتوي على الديوكسين والفيوران والمعادن الثقيلة، ورماد الفحم الحجري المتطاير  واكاسيد الكربون والكبريت والنيتروجين، هذه الانبعاثات التي تسبب أمراضاً قاتلة مثل السرطان وأمراض الجهاز التنفسي وأمراض القلب.

ويؤكد العيناتي أن إعادة تشغيل هذه المقالع لن يعني فقط تدمير البيئة المحيطة بها، بل يعني أيضاً استمرار "مجزرة" صحية حقيقية ضد سكان المناطق المجاورة. سكان الكورة، على سبيل المثال، عانوا لعقود من تأثيرات هذه المقالع، التي تسببت في انتشار السرطان والأمراض التنفسية بين الأطفال والكبار على حد سواء. بعد ان قضت هذه المقالع والمصانع على أكثر من عشرة ملايين شجرة زيتون وتين ولوز وعنب، وحولت المنطقة الخضراء إلى أرض قاحلة ملوثة بالمواد السامة. كما أن هذه المقالع تقع على مجرى نهر العصفور، وتحيط بها الينابيع التي تغذي سكان عدة قرى بالمياه الجوفية، مما يهدد حياة المواطنين بشكل مباشر.

ويطرح العيناتي تساؤلاً جوهرياً حول شرعية هذا القرار، ويؤكد أن هذا القرار لا يتمتع بأي قاعدة قانونية. فالقرار يتعارض مع القوانين اللبنانية المتعلقة بتنظيم المقالع والكسارات، مثل المرسوم 8803 وقانون البيئة اللبناني رقم 444. فالمقالع التي تعمل بها شركات الترابة ليست فقط مخالفة للقانون، بل تقع خارج "خريطة المخطط التوجيهي للمقالع والكسارات"، وهو ما يعني أنها تعمل بلا تراخيص قانونية. ويُفترض أن تقوم هذه الشركات بدفع الرسوم البلدية والمالية المتوجبة عليها، ولكنها تهرب من دفع هذه الرسوم بالكامل، مما يعزز الشكوك حول الفساد المستشري في هذا القطاع.

ويضيف العيناتي أنه منذ أن أبطلت قرارات سابقة لمجلس شورى الدولة المتعلقة بمنح مهَل لشركات الترابة، كان يجب على الحكومة أن تتوقف عن منح هذه الشركات مهل جديدة. لكن على العكس من ذلك، جاء القرار الأخير في ديسمبر 2024 ليعكس تواطؤاً واضحاً مع شركات الترابة على حساب القوانين البيئية والمالية. وقد سبق لمجلس شورى الدولة أن ألغى قرارات مشابهة، مثل القرار رقم 45 في مارس 2019، مما يجعل هذا القرار الأخير مخالفاً للسابقة القضائية ويؤكد أن الحكومة تجاوزت صلاحياتها.

هل هناك خطة خفية وراء القرار؟

علاوة على ذلك، يطرح العيناتي تساؤلات سياسية تتعلق بما يصفه بـ"الصفقات الفاسدة" التي قد تكون وراء هذا القرار. فيقول إن هناك محاولات لشراء أسهم شركة "هولسيم" السويسرية، التي تمتلك حصة كبيرة من سوق الاسمنت في لبنان، وهذا جزء من خطة للسيطرة على القطاع من قبل سياسيين فاسدين.

العيناتي لا يتوقف عند هذا الحد، بل يشير إلى أن بعض السياسيين قد يكونوا وراء تمرير هذا القرار، بهدف تبييض الأموال المنهوبة من الشعب اللبناني ومن الدولة اللبنانية، عبر استخدام واجهات اقتصادية مشبوهة واشخاص سبق ان نهبوا المنطقة الحرة في مطار بيروت بمئات ملايين الدولارات ، ولعبوا دوراً في صفقات فساد معروفة.

ومن الناحية القانونية، يشير العيناتي إلى أن القرار يفتقر إلى أي أساس قانوني، خاصةً في ظل وجود قرارات سابقة لمجلس شورى الدولة ، قضت بعدم قانونية مثل هذه القرارات. ووفقاً للقوانين اللبنانية، لا يمكن للحكومة أن تمنح مهلاً لشركات مخالفة للقوانين والأنظمة البيئية. وبالرغم من هذا، استمرت الحكومة في منح هذه المهَل، مما يعكس تهرباً فاضحاً من المسؤولية القانونية.

ودعا العيناتي مجلس شورى الدولة الى الوقوف مجددا في وجه هذا الفساد، والتصدي للقرارات غير القانونية، ومنع شركات الترابة من ممارسة أنشطتها المدمرة على حساب صحة المواطنين وبيئة لبنان.

الأكثر قراءة

مُقاومة الشعب والجيش تواصل التحرير... وتمديد «مُبهم» للاحتلال! مُفاوضات عون شاقّة مع الأميركيين... ومبعوثة ترامب تزور بيروت قاسم يحفظ للمقاومة حق التدخل... العُقد مُستمرّة وسلام لن «يعتذر»