اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

لا يُخفى على أحد أن الصراع على النفوذ العالمي بين القوتين الاقتصاديتين الكبريين في العالم هو في أوجه. وتأتي المنافسة الاقتصادية على رأس جبهات الصراع الجيوسياسي القائم خصوصًا في مجال التكنولوجيا وبالتحديد الاتصالات، الذكاء الاصطناعي، أشباه الموصلات، المعادن الأرضية النادرة، وفي مجال سلاسل الإمداد والسيطرة على الأسواق العالمية. وترى الإدارة الأميركية الجديدة أن الصين تُشكّل خطرا اقتصاديا كبيرا على الولايات المتحدة الأميركية وبالتحديد على النفوذ الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في كل بقاع الأرض. وتأتي هذه المخاوف من الاستراتيجيات «العدائية» (Aggressive) التي تستخدمها الصين والتي قالت عنها الولايات المتحدة الأميركية إنها أساليب استعمارية جديدة تتبعها بكين للسيطرة على الدول كما يحصل في أفريقيا. وهو ما دفع الرئيس الأميركي ترامب في ولايته الأولى والحالية كما والرئيس بايدن أيضًا إلى فرض رسوم جمركية على الواردات من الصين، ومنع الشركات الأميركية من نقل تقنيات تكنولوجية متطورة إلى الصين بهدف لجم التمدّد الاقتصادي الصيني، كما وفرض عقوبات على شركات صينية مثل هواوي وتيك-توك وبعض الشركات الصينية التي تُسهّل بيع النفط الإيراني. والملاحظ أن هذا الصراع انتقل منذ مدّة إلى منظمّة التجارة العالمية التي يهدّد ترامب بالانسحاب منها على غرار ما حصل مع منظّمة الصحة العالمية. وتعتقد الإدارة الأميركية أن العديد من مؤسسات الأمم المتحدة وقعت تحت تأثير التنين الأصفر. وعلى الرغم من التشابك الاقتصادي الكبير بين البلدين والذي من المفروض أن يشكّل سقفا للصراع، إلا أن المؤشرات الآتية من تصاريح ترامب والعديد من مسؤولي الإدارة الأميركية توحي بأن هذا الصراع ذاهب إلى التصعيد أكثر فأكثر.

الصراع الاقتصادي ليس بالجبهة الوحيدة بين الجبّارين الأميركي والأسيوي، فالتوترات خرجت من المجال الاقتصادي وذهبت إلى المجال العسكري مع الوجود الأميركي الكبير في بحر جنوب الصين ومضيق تايوان، والذي ردّت عليه الصين بتعظيم قدراتها العسكرية سواء كمًا أو نوعًا وإدخال أسلحة متطورة جديدة إلى جيشها. وإذا كان الطرفان يتفاديان المواجهة المباشرة، إلا أن الحذر سيد الموقف خصوصًا مع المناورات الضخمّة من كلا الجانبين في هذه المنطقة. للتذكير، يبقى الوجود العسكري الصيني في الخارج ضعيفًا نسبة إلى الوجود العسكري الأميركي الذي يستمدّ قوّته من تحالفاته العالمية ضمن حلف شمال الأطلسي وضمن الكواد والـ AUKUS... بينما تبقى الصين ضعيفة في مجال التحالفات العسكرية مقارنة بالولايات المتحدة الأميركية.

التأثير في النظام العالمي لهذا الصراع الجيوسياسي والجيو اقتصادي، كبيرٌ جدًا. فالاستراتيجيات المعتمدة من كلا الطرفين مبنية على التطويق وإضعاف الطرف الآخر، وهو ما ينسحب على التجارة الدولية نظرًا إلى حصة الطرفين فيها، وبخاصة الصين التي سيطرت بضائعها على القارات الأسيوية، الأفريقية والأوقيانوسية، وقسم من أوروبا الشرقية وقسم من أميركا اللاتينية. في حين كانت السيطرة للولايات المُتحدة الأميركية في أوائل هذه الألفية (مصدر: Rajah and Albayrak (2025)). ويأتي هذا التأثير من باب العقوبات أو التضييق الغربي على الصادرات الصينية والتي قد تستهدف الدول التي تتعامل مع الصين. وقد بدأت ترجمة هذا الأمر من خلال التهديد الأميركي بالعقوبات لكل دولة تتعامل بغير عملة الدولار الأميركي مع الصين أو روسيا، وبالتالي هناك مخاوف حقيقية على النظام المالي العالمي (أو أقلّه جزءٌ منه) وعلى المؤسسات المالية المعنية بالتجارة الدولية، وعلى سلاسل الإمدادات العالمية خصوصًا للمواد الأساسية (غذائية أو مستخدمة في الصناعة).

المحاكاة التي قمنا بها لمعرفة مدى تأثير التصعيد بين الولايات المتحدة الأميركية تُشير إلى أن زيادة التوتر سيؤدّي إلى خفض الناتج المحلّي الإجمالي العالمي بحسب نسبة التصعيد (أنظر إلى الرسم البياني). الجدير ذكره أن هذه المحاكاة أخذت بعين الاعتبارعدّة متغيرات هي: US-China Tension Index ، Global Supply Chain Pressure Index، World GDP Growth Rate، Investment flows، وCurrency Fluctuations.


لبنان، الدولة التي تُعاني على أكثر من صعيد، هو جزء من المشهد الدولي والتأثير فيه قد يأخذ عدّة أوجه:

أولًا – على صعيد الاستقرار الإقليمي والذي قد يتأثر من زيادة التوتر وذلك من باب تدفق النازحين إلى لبنان، أو الضغوط السياسية، أو الإجراءات العسكرية، وبخاصة أن بعض الفصائل الموجودة في سورية أو دول إقليمية أخرى قد تكون تحت تأثير الدب الروسي الذي تتقاطع مصالحه مع الصين. هذا كلّه سيؤدّي إلى إضعاف البنية التحتية والخدمات الاجتماعية اللبنانية الهشة أصلًا.

ثانيًا – على الصعيد الاقتصادي، سيكون قطاع الطاقة من القطاعات التي ستتأثر بزيادة التوتر إذ قد يتمّ تعطيل عمليات الاستكشاف أو الاستخراج إذا تأثرت الشركات الدولية أو الاستثمارات بالعقوبات أو المخاطر الجيوسياسية. أيضًا سيتأثر القطاع التجاري في لبنان – وهو الذي يعتمد بنسبة كبيرة على الاستيراد – من خلال تأثر سلاسل التوريد وهو ما قد يرفع الأسعار وحتى قد يؤدّي إلى نقص في السلع والبضائع.

وكنتيجة طبيعية لزيادة التوترات، قد تتحوّل الاستثمارات من المنطقة إلى دول أخرى تكون فيها نسبة المخاطر أقلّ، وهو ما يعني انخافضًا في الناتج المحلّي الإجمالي ومعه قطاع السياحة والعقارات والبنى التحتية. وهذا الأمر قد ينسحب أيضًا على المساعدات الدولية للدولة اللبنانية (وهي التي بأشدّ الحاجة إلى مثل هذه المساعدات) نتيجة الأولويات التي تتغيّر بحسب نسبة التصعيد.

وللدولار الأميركي حصّة في كل هذه اللعبة إذ قد تؤدّي زيادة التوترات الجيوسياسية إلى زيادة التغيّرات في قيمة العملات عالميًا، وعلى رأسها الدولار الأميركي – عملة التجارة العالمية الأولى. واستطرادًا هذا الأمر قد يؤثر في كلفة الاستيراد، والتحويلات المالية التي تعتبر حيوية للكيان اللبناني.

إذًا كيف للبنان تفادي كل هذه المخاطر؟ بدون أدنى شكّ، تبقى الأولوية للقيام بالإصلاحات وذلك سريعًا، مما قد يسمح للبنان بالاستفادة من المساعدات الدولية وخلق نوع من الاكتفاء الذاتي للمواد الغذائية الأساسية. وبدون هذه الإصلاحات، عبثًا يمكن الحديث عن تفادي أي مخاطر من تزايد الصراع الأميركي – الصيني.


الأكثر قراءة

لبنان يترقب اليوم الكبير في 23 شباط... سلام اختار وزراءه لجذب الاستثمارات الدولية... و100يوم لاقرار القوانين الاصلاحية