في زحمة الأعمال الدرامية الرمضانية، حيث تتنافس الإنتاجات العربية على جذب المشاهدين، يبرز المسلسل اللبناني "بالدم" كصوت منفرد في ساحة الإنتاج المحلي لهذا الموسم. إنه ليس مجرد سرد درامي، بل نافذة تفتح على المشكلات الاجتماعية التي تخنق المجتمع اللبناني والعربي ايضاً، كاشفةً عن قضايا تمس الحياة اليومية، حيث يلتقي الفقر بالتلاعب، والفساد بالقانون، والاستغلال بالمظلومية. هذا المسلسل لا يقدم مجرد حكايات للتسلية، بل يرسم لوحة اجتماعية تجسد الواقع القاسي بألوان دكناء، تكاد تكون أقرب إلى الجراح المفتوحة منها إلى لقطة درامية عابرة.
من مشهد بسيط في "السرفيس"، حيث تستغل الحاجة لرفع الأجرة بلا مبرر، إلى ساحات المحاكم حيث تتحايل القوانين على العدالة بدلاً من أن تحميها، نجد أنفسنا أمام مرآة تعكس مجتمعا تتشابك فيه المصالح، ويُغرقه غبار الأزمات الاقتصادية والقانونية. في خلفية هذه الصورة، يقبع واقع السجون اللبنانية المكتظة بالمظلومين، الذين يقضون محكومياتهم ثم يتحولون إلى رهائن خلف القضبان، بسبب إجراءات قانونية معقدة، وكأن العدل هنا ليس سوى سرابٍ في صحراء التجاوزات.
وفي أحد خطوطه السردية الأكثر جرأة، يعري المسلسل كيف تصبح العاطفة في مجتمع هشٍّ بوابةً للاستغلال، حيث يخدع الرجل المرأة باسم الحب، فيستنزفها مالياً وعاطفياً، قبل أن يبحث عن ضحية جديدة، تماماً كما تُقتنص الفرص في سوق جشع. في إحدى القصص، نرى رجلاً يتنقل بين النساء كمن يجمع ثرواته على حساب مشاعرهن، فيبيع الأحلام لمن يصدقها، كما باع شقيقته ذات يوم لسداد دينه. هل هذه مجرد حبكة درامية؟ أم هي استعادة لصدى حقيقي يتردد في شوارع الواقع اللبناني، حيث الفقر والتلاعب بالقوانين يخلقان مجتمعات فرعية تعيش على الاستغلال؟
بناء على ما ذكر، إن مسلسل "بالدم" لا يعرض القضايا ليستهلكها الجمهور في ساعة من المشاهدة، بل يضعها أمامه كحقيقة دامغة، ويدفعه إلى التفكير في ما وراء المشهد، في التواطؤ الصامت، في هشاشة القانون، وفي الأسئلة المعلّقة التي لا تجد إجابات سوى المزيد من الدراما الواقعية التي تعاش كل يوم.
لذلك، تتطرق "الديار" الى هذه القضايا الاجتماعية الحساسة مع اهل الاختصاص، إيماناً منها بأهمية التوعية ودورها في بناء مجتمع أكثر وعيًا وقدرة على مواجهة التحديات. فهذه المشكلات، وإن طُرحت في سياق درامي، تعكس واقعا يعيشه كثيرون، حيث قد تدفع الظروف القاسية الإنسان إلى قرارات غير محسوبة، ويغدو التوجيه والتوعية ضروريين لمنحه رؤية أوضح لما قد يواجهه.
ولطالما كانت "الديار" سباقة في طرح مثل هذه القضايا، ليس فقط لكشفها، بل أيضاً للإرشاد والتثقيف، لأن التذكير قد يكون طوق نجاة لمن يجد نفسه في دوامة اليأس. واليوم، تواصل "الديار" دورها في نقل الحقيقة، وتسليط الضوء على ما يستحق الاهتمام، سعيًا لمجتمع لبناني وعربي أكثر وعياً وإنصافاً.
هكذا يقع البعض في فخ الرجل الماكر
بالاستناد الى هذه الاحداث المسرودة في المسلسل والمُعاشة في الحياة الواقعية، تقول الخبيرة في الشؤون الاجتماعية الأسرية د. سهير الغالي لـ الديار: "يبدو أن القائمين على المسلسل سلطوا الضوء على العاطفة لدى المرأة، بغض النظر عن مستواها التعليمي، أو دورها في المجتمع، أو المهام الموكلة إليها. بمعنى أوسع، فإن نضج عقلها أو تحصيلها الأكاديمي أو موقعها الاجتماعي، لا يلغي حقيقة أن العاطفة تظل عاملاً طاغياً في تكوينها. ومن الناحية العلمية، لا شك أن المرأة أكثر عاطفية من الرجل، وهو أمر مرتبط بفطرتها كأم ودورها كمقدمة للرعاية، حيث تؤدي العاطفة دوراً أساسياً في هذه المهام، وهذا أمر طبيعي بحكم الطبيعة البشرية".
وتضيف "لكن كون المرأة عاطفية، لا يعني أن العاطفة نقطة ضعف لديها، بل على العكس ينبغي أن تكون مصدر قوة. فالعاطفة، عندما تُضبط وتُوجه بشكل سليم، تُصبح سمة تميّز المرأة وتُعرف بالنضج العاطفي، أي أنها تمتلك وعياً عاطفياً، وذكاءً اجتماعياً، وقدرة على التمييز في العديد من القضايا. إلى جانب ذلك، تتمتع المرأة غالباً بحس سادس أقوى من الرجل، بالإضافة إلى مقومات أخرى تعزز من قدرتها على ممارسة أدوارها المختلفة بثقة ووعي".
سبل الحماية والردع!
وتتابع "في المقابل، هذا يقودنا إلى نقطة مهمة، وهي أن العاطفة ليست ضعفاً، بل يمكن أن تكون مصدر قوة. لكن تكمن المشكلة في النساء اللواتي يقعن في فخ الرجال المحتالين، خاصة أولئك الذين يعانون من اضطرابات في الشخصية، مثل النرجسية. هؤلاء غالبا ما ينجحون في استغلال النساء اللواتي يعانين من ضعف في مناعتهن النفسية، نتيجة تعرضهن لصدمات أو مشكلات معينة، مما يجعلهن في حالة هشاشة عاطفية. وعندئذ، تطغى العاطفة على العقل، وتضطرب القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ، فتتخذ المرأة قرارات غير مدروسة، وتقع فريسة سهلة للخداع والاستغلال".
إشكالية العاطفة والاستحواذ!
وتشير الغالي إلى أن "المجتمع الذي نعيش فيه يرزح تحت وطأة أزمات متلاحقة، بدءاً من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، إلى الحروب والصدمات الجماعية. وقد أثرت هذه المحن في شرائح عديدة، إلى جانب تأثير التربية والبيئة الأسرية، ما أفرز أفرادا يعانون من اضطرابات في الشخصية والهوية، ويمارسون العنف والخداع، ويعتمدون في قيمهم على الفردية والاستغلال على حساب الآخرين والمجتمع. وهذه الفئة لا يمكن كشفها بسهولة، بل غالباً ما يظهر وجهها الحقيقي، بعد الاحتكاك المباشر أو الخوض في تجربة معهم. ولهذا، من الضروري العمل على تهيئة الشباب، ذكوراً وإناثاً، للزواج من خلال برامج ودورات تدريبية، ترشدهم الى كيفية اختيار الشريك المناسب، والتمييز بين العلاقات السامة والصحية، وتحقيق التوازن بين الحاجات الشخصية والعاطفية. كل ذلك يتم عبر التوعية والتدريب والتعلم من التجارب السابقة".
وتضيف: "على كل من مرّ بتجربة سامة أو تعرّض للاستغلال ألا يجلد ذاته، وألا يبقى عالقاً في تلك المرحلة، بل عليه أن يتعلم من التجربة، ويكتسب نضجاً يحصّنه من الوقوع في الفخ ذاته مرة أخرى. والأهم من ذلك، هو وضع العاطفة في موضعها الصحيح، من خلال اختيار الشريك الداعم والمشجع والمكمّل للحياة، لا الشريك الذي يستنزفها أو يسيء صونها".
وتنوه الغالي إلى أن "للأهل دوراً محورياً في تربية أبنائهم، ذكوراً وإناثاً، على كيفية بناء علاقات إيجابية وتعزيز التواصل السليم، مع تعليمهم كيفية وضع حدود لحماية أنفسهم. فمسؤولية الأهل كبيرة في غرس مفهوم احترام الذات لدى أطفالهم، وتعليمهم متى يقولون "نعم" ومتى يقولون "لا". وكلما نشأ الطفل على أسس تربوية صحيحة، زادت مناعته النفسية، وتضاءل خطر الوقوع في علاقات سامة أو اتخاذ قرارات خاطئة على الصعيد الشخصي في المستقبل".
في الخلاصة، صحيح أن مسلسل "بالدم" سلط الضوء بشكل واقعي وحقيقي على قضايا اجتماعية تمس الحياة اليومية للمجتمع اللبناني والعربي، مما جعله يحظى بنقد فني كثيف. فقد أظهر المسلسل كيف أن الممثلين لم يكونوا مجرد صور جمالية أو عارضات أزياء لشد الانتباه، بل كانوا حقيقيين وأدوا أدوارهم ببراعة. كان الأداء في غاية الاحترافية، بدءاً من مشكلة تعرفة "السرفيس" وصولًا إلى شخصية الرجل المخادع، الذي يستغل النساء عاطفياً ومادياً. ومن بين أبرز الأدوار، كان دور "عدلا" الذي أدته الممثلة سينتيا كرم، حيث قدمت أداءً صادقاً وواقعياً، حتى كأننا نشاهد المشهد مباشرة على أرض الواقع. إن ابراز هذه القضايا الاجتماعية أمر في غاية الأهمية، ويستحق أن يُخصص له المزيد من الجهود لتوعية المجتمع وإرشاده نحو الأفضل.
يتم قراءة الآن
-
لبنان تحت المجهر الدولي... قرارات حاسمة في الأفق حرب الساحل السوري تنعكس توترا في طرابلس ــ عكار ــ الهرمل ــ القصير
-
الترويكا الأميركيّة لإدارة لبنان
-
انجاز التعيينات الامنية الخميس... «تسوية» شقير وعبدالله أنقذتها؟ بري للخماسية: «وطني معاقب» واوتاغوس: مفاوضات الحدود قريبا الحجار يكسر الجمود... والبيطار على مشارف قرارات حاسمة!
-
الضغوط تخلي معلولا من المسيحيين...أين المجتمع الدولي من الهجرة المسيحيّة من سورية؟ مخاوف من اتباع سياسة ممنهجة لإفراغ المناطق الدينيّة وقلب المعادلة الديموغرافيّة...!!
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
15:37
صحيفة "هآرتس" "الإسرائيلية": رئيس الأركان الجديد زامير وافق على نقل مواد حساسة تتعلق بفشل 7 أكتوبر إلى مراقب الدولة خلافاً لهرتسي هليفي
-
15:36
المنار: قوات العدو تطلق رشقات رشاشة من موقعها في تلة الحمامص بإتجاه بساتين الوزاني المحاذية لحاجز الجيش اللبناني
-
15:34
المتحدث باسم حركة الجهاد الإسـلامي: العدوان الصهيوني على دمشق استهدف منزلاً خالياً وليس مقراً قيادياً للحركة كما يزعم الاحتلال
-
15:34
الصين: ندعم الحل الدبلوماسي لقضية البرنامج النووي الإيراني
-
15:28
طائرة مسيرة من نوع هيرون تحلق في معظم الأجواء اللبنانية وتقوم برسم أشكال دائرية
-
15:25
وزارة الخارجية الايرانية تستدعي سفراء الترويكا الأوروبية في طهران
