إنتخاب العماد جوزاف عون رئيسا للجمهورية اللبنانية، وتشكيل حكومة بالأصالة برئاسة نواف سلام، أعطيا أملا جديدا لبلد يواجه تحديات غير مسبوقة. فلبنان تحت تأثير أزمة اقتصادية واجتماعية، دفعت الملايين من المواطنين إلى حافة الفقر مع انهيار الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي (أكثر من 60 مرّة)، وارتفاع التضخم – سرطان الاقتصاد – ليتجاوز 300% سنويا، فيما تجاوزت نسبة البطالة 40%. وبالتالي تتجه الأنظار نحو حكومة سلام لمعرفة خطّتها وأولوياتها في معالجة هذه الأزمة.
حتى الساعة قامت حكومة سلام بعدد من الخطوات، منها نال الاستحسان (التعيينات الأمنية وتمديد مهلة مرور الزمن لليوروبوندز)، ومنها لم يلق استحسان المراقبين مثل إقرار موازنة العام 2025 بمرسوم تشريعي. كما أن هناك بعض الإجراءات المرتقبة مثل التعيينات الإدارية، والمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، والانتخابات البلدية، والانتخابات النيابية وتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار. إلا أنه وبانتظار أن تعلن حكومة سلام عن خطّتها وأولوياتها ومنهجيتها في معالجة الأزمة، هناك العديد من الملفات التي تُصنّف على أنها ساخنة، وستكون موضوع الساعة لدى الرأي العام الذي استبشر خيرا بهذا العهد.
الفساد والحوكمة والعدالة الاقتصادية
تنصّ الفلسفة الاقتصادية على أن هناك نوعين من العدالة: العدالة الاقتصادية التي هي مبدأ يعتمد العدالة في إعادة توزيع الثروات الناتجة من النشاط الاقتصادي، من خلال السياسات الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية التي هي مبدأ أخلاقي وسياسي يهدف إلى المـساواة في الحقوق، ويدعو إلى التعاضد داخل المجتمع الواحد. وهذه العدالة – أي الاجتماعية هي عبارة عن تصوّر فكري يطرح المثالية للمجتمع الذي نهدف إليه. وبما أن هذه النظرة مثالية ولا يمكن الوصول إليها بسهولة، يتمّ القبول بلا عدالة في المجتمع، على أن يتمّ محوها تدّريجيا من خلال السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تتبعها الحكومات.
هذان النوعان من العدالة هما أسس المجتمعات المتطوّرة، وبالتالي لا يمكن لأي مجتمع مهما علا شأنه الاقتصادي والسياسي والعسكري والمالي، أن يدّعي صفة المجتمع المتطوّر والمتحضّر من دون تطبيق هذين المبدأين.
في الواقع أي اقتصاد يمتلك موارد لا يستخدمها، يتمّ تصنيفه على أنه اقتصاد «متخلّف»، وأي مجتمع فيه فقر، يتمّ تصنيفه على أنه مجتمع «متخلّف». هذه التصنيفات لا تأخذ في عين الاعتبار الواقع الاقتصادي أو السياسي للبلد، بل هي فلسفة تضع الأسس لنهج يجب على كل من يتعاطى الشأن العام أن يعتمده، وأن تكون تصرّفاته وأعماله في المجتمع وفي الاقتصاد وفي السياسة انعكاس لهذا النهج.
الفساد المستشري في مركز القرار خلق احتكارات، قوّضت مبادئ العدالة في لبنان وجعلت من شبه المستحيل احترام قواعد اللعبة الاقتصادية، المبّنية بالدرجة الأولى على التنافسية. ولم تقم أي سياسة حكومية بتصحيح هذا الخلل، لا بل على العكس ازدادت قوّة الاحتكار مع الوقت، إلى درجة يمكن من خلالها القول إن الاحتكار أخضع القرار السياسي، وأصبح مشروع قانون التنافسية يقبع في جوارير الوزارات.
من المفروض أنه من خلال مبدأ الشفافية المنصوص عليه في معظم الأنظمة الديموقراطية العالمية، أن يتمّ لجم ظاهرة الفساد. إلا أن ما حصل في لبنان هو إضعاف لمؤسسات الدولة لحساب أفراد، وإضعاف للجهاز القضائي في مواجهة هذه الظاهرة… مما زاد من حجم الفساد وتداعياته السلبية اقتصاديا، اجتماعيا، بيئيا وماليًا.
مكافحة وباء الفساد يبدأ باستقلالية القضاء وتطبيق صارم للقوانين المرعية الإجراء، واعتماد الشفافية في كل الشأن العام. من هنا يظهر أمام الحكومة ثلاثة تحدّيات:
- أولًا استقلالية القضاء: هل ستسطيع حكومة سلام إقرار استقلالية القضاء؟ الأمر ليس بالسهل! لا بل أكثر من ذلك، ستُشكّل المقاومة السياسية العقبة الأساسية أمام الحكومة لإجراء هذه الاستقلالية، نظرا إلى الملفات التي من المفروض على القضاء التعامل معها (قضية المودعين، انفجار مرفأ بيروت، المال العام...)
- ثانيا تطبيق القوانين: حتى الساعة لم نستطع تطبيق القوانين في لبنان على الرغم من إقرارها، إذ هناك أكثر من 40 قانونا غير مطبّق بحسب التصريحات الرسمية. أضف إلى ذلك مدى قدرة الأجهزة الأمنية على تطبيق الاستنابات القضائية عند صدورها... فهل ستتمكّن حكومة سلام من تغيير المعادلة وكيف؟
- ثالثا إضفاء الشفافية على القطاع العام من خلال نشر المعلومات لعامة الشعب، بدءا من عمل الحكومة وصولا إلى أدنى مستوى في الإدارات والمؤسسات العامة. فهل تُعطي حكومة سلام المثال، وتبدأ بنفسها من خلال نشر قراراتها على موقعها الإلكتروني؟
ملفات مالية واقتصادية بالجملة
لا يَخفى على أحد أن قطاع الكهرباء هو أحد أكبر التحديات التي تواجه حكومة سلامة. فالكهرباء استهلكت عشرات مليارات الدولارات وهي في وضعٍ مُزرٍ. وينتظر الشعب اللبناني تفسير من قبل حكومة سلام حول مصير المليارات، التي أنفقت على هذا القطاع من دون أي جدوى. هل تجرؤ حكومة سلام على تحرير هذا القطاع واعتماد الشرْكة بين القطاعين العام والخاص؟ أو ستعمد كسابقاتها إلى مواصلة إدارة هذا القطاع؟
أيضا هناك ملف القطاع العام الذي يشكّل السبب الأساسي للأزمة الحالية، مع عجز مزمن منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، بمعدّل 3.1 مليار دولار أميركي سنويا. وبدل رفع الضرائب في وقت ينازع فيه الاقتصاد الرسمي، يجب على الحكومة إعادة هيكلة القطاع العام مؤسساتيا ووظائفيا، وخفض الكلفة وضرب الزبائنية السياسية التي تعتبر التوظيف في القطاع العام أساسا لبناء الزعامات.
واستطرادا يجب على الحكومة النظر إلى حلول لإعادة هيكلة الدين العام، الذي شكل قرار وقف دفعه عزلا للبنان عن النظام المالي. وبما أن هذا الدين مموّل بشكل أساسي من ودائع المودعين، يجب استطرادا العمل على المحافظة على الودائع، من خلال منهجية تحفظ القطاع المصرفي (كيلا تطير الالتزامات) وبين قدرة الدولة على سدّ المستحقات المترتبة عليها، وإيلاء ملف التحقيق في ممارسات مشكوك فيها إلى القضاء. بالطبع هذا الأمر يجب أن يترافق مع إقرار قانون الكابيتال كونترول.
أيضا يجب على الحكومة النظر إلى النمو الاقتصادي – الوحيد القادر على امتصاص الخسائر. من هنا ضرورة ابتعاد الدولة عن الاقتصاد كلاعب اقتصادي، واكتفائها بدورها الذي نصّت عليه النظريات الاقتصادية، وهو التشريع والتنظيم والرقابة. وهنا تبرز أهمّية تعيين الهيئات الناظمة التي تشكّل طبقة عازلة بين السياسة والاقتصاد.
ملفات اجتماعية ضاغطة
إذا كان اللبناني يتصف بميزة التأقّلم، فهذا لا يعني أن الأمور تسير جيدا. فهناك اليوم أكثر من 60% من الشعب غير مغطّى صحيا، وهو ما يفرض إعادة هيكلة القطاع الصحّي بشكلٍ يسمح بالحصول عن أدّنى الحقوق الإنسانية – أي حق الرعاية الطبّية. ولا يجب نسيان البطالة التي تُعدُّ واحدة من أبرز التحديات، حيث يعاني أكثر من 40% من القوى العاملة التي هي اليوم عاطلة من العمل.
من هنا ضرورة العمل على تحفيز النمو الاقتصادي ونشر ثقافة العمل، من خلال خلق فرص عمل (الاستثمار في قطاعات ذات إمكانات عالية مثل الطاقة المتجددة، والتكنولوجيا، والزراعة) أو خلق الشركات الصغيرة والمتوسّطة الحجم. كما أن للشركة بين القطاعين العام والخاص دورا رئيسيا في خلق فرص العمل وامتصاص الفائض في القطاع العام. أضف إلى ذلك ومع وصول نسبة كبيرة من الشعب إلى عتبة الفقر، هناك ضرورة لتوسيع شبكات الأمان الاجتماعي، من خلال تقديم تحويلات نقدية مباشرة، تمولها المساعدات الدولية كما وتمويل إعادة الإعمار في المناطق المتضرّرة من جراء العدوان الأخير.
ملفات محلّية - إقليمية
بالطبع تبقى أزمة النازحين السوريين عبئا كبيرا على كاهل الدولة والاقتصاد والمواطن. وإذا كان الاقتصاد اللبناني يحتاج إلى 300 ألف عامل سوري، لا يمكن القبول بنزوح يزيد على المليونين! من هنا ضرورة التعاون مع المنظمات الدولية لعوددة هؤلاء، وتأمين المزيد من التمويل لدعم غير القادرين على العودة إلى سورية.
يبقى الملف الأكثر تعقيدا والأكثر حساسية، نظرا إلى أن معظم الملفات الآنفة الذكر تتعلّق به بشكلٍ أو بآخر، وهو ملف تطبيق وقف إطلاق النار الموقّع مع «إسرائيل»، والذي يواجه حتى الساعة صعوبات داخلية وخارجية.
ماذا لو فشلت الحكومة؟
باعتقادنا، إن فشل الحكومة في معالجة هذه الأزمات سيكون له عواقب كارثية، بدءا من حدوث اضطرابات، وصولا إلى فشل الدولة، ومرورا بهجرة جماعية. وللتذكير صنّف البنك الدولي انهيار الاقتصاد اللبناني كأسوأ الانهيارات عالميا منذ منتصف القرن التاسع عشر. وبالتالي من دون إجراءات عاجلة، يواجه لبنان خطر أن يصبح دولة فاشلة، غير قادرة على تقديم الخدمات الأساسية أو الحفاظ على القانون والنظام.
يتم قراءة الآن
-
توجس سعودي من صفقة تركية ـ اسرائيلية
-
ما سر التوقيت الاسرائيلي بين قصف الضاحية واجتماع باريس ؟ عون وماكرون : الاعتداءات غير مبررة... من وراء الصواريخ اللقيطة ؟ الشرع يطالب بالضباط والودائع وابعاد حزب الله عن الجرود
-
هل عادت الكلمة للشارع... من طريق المطار الى ساحة الشهداء الحريري يكسب الرهان الشعبي... والحزب "يهز العصا"
-
ما هي تداعيات وقف المساعدات الأميركية على الاقتصاد اللبناني؟ لبنان كان يتلقى مساعدات بقيمة ٦٤٣ مليون دولار لمختلف القطاعات
الأكثر قراءة
-
هل عادت الكلمة للشارع... من طريق المطار الى ساحة الشهداء الحريري يكسب الرهان الشعبي... والحزب "يهز العصا"
-
الدراّج اللبناني رفيق عيد: سأشارك في جميع مراحل بطولة العالم للراليات الصحراوية (باها) للعام الجاري
-
ما هي تداعيات وقف المساعدات الأميركية على الاقتصاد اللبناني؟ لبنان كان يتلقى مساعدات بقيمة ٦٤٣ مليون دولار لمختلف القطاعات
عاجل 24/7
-
16:06
"رويترز": تحذير من تسونامي بعد زلزال بشدة 7 درجات ضرب جزر تونغا جنوب المحيط الهادئ
-
16:06
زلزال بقوة 7 درجات قبالة جزر تونغا بالمحيط الهادئ
-
14:24
الرئيس المصري يؤكد خلال اتصال هاتفي مع الرئيس الفلسطيني موقف القاهرة الثابت والواضح والداعم للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني
-
14:01
ولي العهد السعودي: نقف دائماً إلى جانب لبنان وحريصون على استعادة ازدهاره في مختلف المجالات من خلال إرساء الأمن والاستقرار وإجراء الإصلاحات الضرورية
-
14:01
الرئيس الإيراني: السلوك الأميركي هو الذي سيحدد استمرار مسار المفاوضات
-
13:31
نتنياهو: التدخل الأميركي ضد الحوثيين بقوة كبيرة يمثل تغييرا كبيرا
