على مدار أربعة قرون، شهد العالم واحدا من أحلك الفصول في تاريخه، حيث تم انتزاع ملايين الرجال والنساء والأطفال من قراهم ومدنهم في غرب افريقيا، ليتم نقلهم قسرا عبر المحيط الأطلسي إلى العالم الجديد، حيث عانوا من الاستعباد والاستغلال القاسي. هذه التجارة المروعة، التي استمرت من القرن الخامس عشر حتى أواخر القرن التاسع عشر، لم تكن مجرد جريمة ضد الإنسانية، بل كانت أيضا أداة لتأسيس نظام اقتصادي واجتماعي عزز التمييز العنصري، ورسّخ أوهام تفوق بعض الأعراق على غيرها.
فلم يكن الأمر مجرد تجارة عابرة، بل كان مخططا ممنهجا أتاح للقوى الاستعمارية بناء إمبراطورياتها على حساب كرامة وحياة ملايين البشر. كما ساهم في ترسيخ مظاهر التمييز والتهميش، التي لا تزال آثارها واضحة حتى يومنا هذا، حيث يعاني المنحدرون من أصل افريقي من تحديات اقتصادية واجتماعية عميقة نتيجة هذا التاريخ القاسي. لذا، فإن فهم هذه الحقبة ليس مجرد استرجاع لأحداث الماضي، بل هو خطوة ضرورية لمواجهة امتداداتها في عالمنا الحديث.
يوم للتذكير والتغيير... لماذا 25 آذار؟
يُخصص يوم 25 آذار من كل عام لإحياء ذكرى ضحايا الرق وتجارة الرقيق عبر الأطلسي، استنادا إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر عام 2007، والذي أكد أن هذه التجارة تمثل واحدة من أسوأ انتهاكات حقوق الإنسان في التاريخ. فتم اختيار هذا التاريخ تحديدا لأنه يوافق يوم إقرار قانون إلغاء تجارة الرقيق في المملكة المتحدة عام 1807، وهو الحدث الذي مثّل نقطة تحول في الجهود العالمية لإنهاء هذه التجارة الوحشية.
لكن من المهم التمييز بين "إلغاء تجارة الرقيق" و "إلغاء العبودية" نفسها، فبينما حُظرت التجارة عبر الأطلسي، استمر الاستعباد لعدة عقود بعد ذلك، وكان على المستعبدين أن يخوضوا نضالات طويلة من أجل تحرير أنفسهم فعليا. ومن أبرز الأمثلة على هذه النضالات، الثورة الهايتية التي اندلعت عام 1791، عندما قاد الرجال والنساء المستعبدون انتفاضة ضد المستعمرين الفرنسيين، واستمرت حتى حصلت هايتي على استقلالها عام 1804، لتصبح أول دولة في التاريخ تنال استقلالها نتيجة ثورة قادها المستعبدون أنفسهم.
إن إحياء هذا اليوم ليس مجرد احتفال رمزي، بل هو دعوة إلى العمل، حيث يهدف إلى تسليط الضوء على الإرث المستمر للعبودية، مثل العنصرية المؤسسية والتمييز الاجتماعي، ويشجع على اتخاذ خطوات ملموسة لتفكيك الهياكل التي تعيق التقدم والمساواة.
التعليم كسلاح ضد النسيان
ما هو دور الأمم المتحدة واليونسكو؟
إحدى أهم الوسائل لمواجهة هذا الإرث القاتم هي التعليم والتوعية، وهو ما تعمل عليه الأمم المتحدة من خلال عدة برامج. فقد أطلقت إدارة التواصل العالمي في المنظمة برنامج التوعية بتجارة الرق والرقيق عبر المحيط الأطلسي، والذي يهدف إلى رفع مستوى الوعي حول هذه الحقبة التاريخية، والتأكيد على الدور الذي أدّاه المستعبدون في بناء المجتمعات التي أُجبروا على العيش فيها.
إلى جانب ذلك، تقود منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) مشروع "طريق الرقيق"، الذي يسعى إلى توثيق هذه التجارة البشعة وإدماجها في المناهج الدراسية العالمية، لضمان عدم طمس هذا التاريخ من الذاكرة الجماعية. فالنسيان، كما تؤكد اليونسكو، يمثل تواطؤا مع الظلم، بينما يضمن التذكر أن نستلهم من الماضي لبناء مستقبل أكثر عدالة وإنصافا.
كما تسعى هذه المبادرات إلى تصحيح بعض الأساطير المرتبطة بتاريخ العبودية. فعلى سبيل المثال، لا يزال هناك اعتقاد سائد بأن الأفارقة المستعبدين لم يكن لهم تأثير يذكر في العالم الجديد، بينما الحقيقة أنهم كانوا قوة فاعلة ليس فقط من خلال عملهم، بل عبر المهارات والمعارف التي حملوها معهم. فقد ساهموا في الزراعة والهندسة والموسيقى والفنون والطهي، مما أثرى الثقافات التي فُرض عليهم العيش فيها.
إرث المقاومة... عندما قاد المستعبدون ثوراتهم
من أبرز الجوانب التي يتم تجاهلها عند الحديث عن تجارة الرقيق، هو أن المستعبدين لم يكونوا مجرد ضحايا صامتين، بل قادوا حركات مقاومة شجاعة في مختلف أنحاء العالم. فبالإضافة إلى الثورة الهايتية، اندلعت مئات التمردات الفردية والجماعية، مثل ثورة "مارون" في جامايكا، وانتفاضات العبيد في البرازيل والولايات المتحدة، والتي أدت دورا كبيرا في تسريع إنهاء العبودية.
هذه النضالات لم تكن مجرد ردود فعل مؤقتة، بل استمرت لعقود، وأثرت في الحركات الحقوقية الحديثة. فالكفاح الذي خاضه المستعبدون بالأمس، هو الذي ألهم حركات الحقوق المدنية في القرن العشرين، مثل نضال مارتن لوثر كينغ، ومالكوم إكس، ونيلسون مانديلا، الذين واجهوا العنصرية والتمييز بنفس الروح النضالية.
ذاكرة لا تُمحى ومسؤولية لا تنتهي
إن الاعتراف بتاريخ العبودية لا يعني مجرد استذكار الماضي، بل هو التزام أخلاقي بمواجهة تبعاته في الحاضر. فلا يزال المنحدرون من أصل أفريقي يعانون من أوجه عدم المساواة في العديد من المجالات، مثل التعليم والتوظيف والعدالة الجنائية.
ولهذا السبب، أطلقت الأمم المتحدة العقد الدولي للسكان المنحدرين من أصل أفريقي (2015-2024)، بهدف تعزيز المساواة ومناهضة العنصرية في جميع أنحاء العالم. وتعمل اليونسكو، إلى جانب منظمات أخرى، على دعم مبادرات تسلط الضوء على الإنجازات التي قدمها هؤلاء السكان رغم العقبات التاريخية.
هل يوجد رق في لبنان؟
بالمعنى التقليدي للرق، أي امتلاك البشر قانونيا واعتبارهم ممتلكات يمكن بيعهم وشراؤهم، لم يعد الرق موجودا في لبنان، كما هو الحال في معظم دول العالم، حيث تم إلغاؤه رسميا عبر القوانين الدولية والاتفاقيات التي وقّع عليها لبنان، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات المناهضة للرق والعمل القسري. لكن غياب الرق القانوني لا يعني أن العبودية قد انتهت تماما، إذ لا تزال تتجلى في أشكال حديثة تستغل الفئات الأضعف في المجتمع، ما يجعلها ظاهرة تحتاج إلى مواجهة صارمة.
ورغم عدم وجود الرق التقليدي، فإن نظام الكفالة المفروض على العمال المنزليين الأجانب في لبنان، يُعد من أبرز أشكال العبودية الحديثة. يخضع العمال القادمون من دول مثل إثيوبيا وسريلانكا والفلبين وغانا لقيود شديدة تفرضها الكفالة، ما يؤدي إلى مصادرة جوازات سفرهم، منعهم من تغيير وظائفهم بحرية، وتعرضهم في بعض الأحيان للعنف الجسدي والنفسي. وقد ثّقت منظمات حقوقية العديد من حالات سوء المعاملة والانتحار بين العاملات المنزليات، بسبب الظروف اللاإنسانية التي يواجهنها، ما جعل نظام الكفالة محل انتقادات واسعة من قبل المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية.
إلى جانب العمل القسري، يُعد الاتّجار بالبشر أحد أخطر أشكال العبودية الحديثة في لبنان، حيث يتم استغلال النساء والفتيات في شبكات الدعارة القسرية، تحت التهديد والتعذيب. كانت فضيحة "شي موريس" عام 2016 إحدى أبرز القضايا التي كشفت عن حجم هذه الجريمة، حيث تم تحرير 75 امرأة سورية كنّ محتجزات قسرا، ويتعرضن لانتهاكات جسدية ونفسية مروعة. ورغم الجهود الأمنية، لا تزال هناك شبكات تنشط في استدراج واستغلال النساء، مستفيدة من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة.
كما أن الأزمة الاقتصادية الحادة التي يعيشها لبنان فاقمت من ظاهرة عمالة الأطفال القسرية، حيث أصبح الآلاف من الأطفال يعملون في الزراعة والمصانع وحتى في التسول القسري، وهي ممارسة تديرها شبكات منظمة تجبر الأطفال على العمل في الشوارع ، مقابل القليل من الطعام والمأوى. فهذا الشكل من العبودية الحديثة يحرم الأطفال من التعليم ويعرّضهم لمخاطر نفسية وجسدية كبيرة، مما يجعل من الضروري تعزيز الرقابة وتطبيق القوانين التي تحمي حقوقهم.
إذا كان الرق التقليدي قد انتهى رسميا، فإن العبودية الحديثة في لبنان ما زالت قائمة بأشكال مختلفة، مستهدفة العمال الأجانب والنساء والأطفال. وبينما تكافح المنظمات الحقوقية لفضح هذه الممارسات، يبقى التحدي الأكبر في تطبيق القوانين بشكل صارم، وتوفير الحماية الكافية للفئات الأكثر ضعفا.
يتم قراءة الآن
-
ترقب لمزيد من الضغوط الأميركيّة... أورتاغوس تنتقد الجيش؟! القوانين الانتخابيّة الى «مقبرة اللجان»... والبلديّات في أيار خطة أمنيّة لطرابلس وعكار... ووزير الدفاع في دمشق غداً
-
اللبنانيّون ينتحرون
-
أدوار وظيفيّة لطهران وأنقرة و«تل أبيب» في الإقليم... وهيمنة لواشنطن
-
المطلوب تهجير وضرب البيئة الضامنة للمقاومة في الجنوب "إسرائيل" لا تثق بالجيش... والبديل ميلشيا للمنطقة العازلة
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
21:11
ترامب: مئات المليارات يجري هدرها في الولايات المتحدة بفعل الفساد، وأدعم وقف تمويل الإذاعة الوطنية وهذا التمويل كان فقط إهدارا للمال العام.
-
21:10
ترامب: لدينا فريق رائع ومجلس الأمن القومي قوي وليس هناك أي معلومات سرية استخدمت على تطبيق سيغنال، وهناك الكثير من أوجه الفساد وإدارة الكفاءة الحكومية تعمل على تقليل الهدر في الوكالات الحكومية.
-
21:09
الرئيس الأميركي دونالد ترامب: المفاوضات بين أوكرانيا وروسيا مستمرة والأمور تسير على نحو طيب، ونعتقد أننا سنتمكن من التوصل لاتفاق بشأن الحرب في أوكرانيا وهناك دول تساعدنا على مراقبته.
-
20:12
رسامني: لا ننظر إلى مطار القليعات كحاجة محلية لعكار فحسب بل كموقع استراتيجي واعد على مستوى لبنان
-
19:23
الجيش "الإسرائيلي": تم التخطيط لهذه المناورات في إطار الخطة السنوية للعام 2025 ولا توجد خشية من حدث.
-
19:22
الجيش "الإسرائيلي": المناورات ستحاكي حماية المنطقة والاستجابة لتهديدات فورية في الميدان بتعاون متعدد الأذرع، وخلالها ستلاحظ حركة نشطة لقوات الأمن والطائرات والقطع البحرية.
