اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

                       

على سفوح جبل الشيخ، حيث تمتد مزارع شبعا في أقصى الجنوب اللبناني، تدور واحدة من أكثر القضايا تعقيدا في النزاع العربي- "الإسرائيلي". فمنذ انسحاب الاحتلال من جنوب لبنان عام 2000، بقيت هذه المزارع موضع جدل، حيث تؤكد الدولة اللبنانية سيادتها عليها، بينما تعتبرها "إسرائيل" جزءا من الجولان السوري المحتل منذ عام 1967. أما الأمم المتحدة فقد استندت إلى الخرائط التي اعتمدتها خلال ترسيم "الخط الأزرق"، واعتبرت أن المزارع تابعة لسورية إداريا، لكنها شددت على أن أي تعديل للحدود يتطلب اتفاقاً رسمياً بين لبنان وسورية.

لكن إلى أي مدى يمكن للوثائق التاريخية أن تحسم هذا النزاع؟ كيف ينظر أهالي شبعا والقرى المجاورة إلى هذه القضية، وهم الذين عاشوا على أرضها وزرعوا سهولها قبل أن تتحول إلى منطقة محتلة؟ وهل تكفي شهادات الملاك القدامى والصكوك العقارية، لإثبات الحق اللبناني في مواجهة المعايير التي تعتمدها الأمم المتحدة؟ ولماذا لم تقدم سوريا حتى الآن وثائق رسمية تحسم موقفها في هذا الملف؟

بناء على ما تقدم، تحاول "الديار" استجلاء الحقائق بعيدا عن الدعاية السياسية، من خلال البحث في الوثائق التاريخية، والاستماع إلى شهادات الأهالي بالإضافة الى رأي الجغرافيين الذين يملكون الأدلة الحاسمة حول لبنانية مزارع شبعا. فهل يمكن للتاريخ والجغرافيا أن يغيرا الحسابات السياسية؟ 

الإطار الجغرافي

في ضوء هذه المعطيات المتأرجحة، يشرح أستاذ الجغرافيا والخبير في شؤون السكان والهجرة الدكتور علي فاعور لـ "الديار" ان "هناك اعتقادا سائدا بأن قمم جبل حرمون (أو جبل الشيخ)، تمثل في التاريخ الجيولوجي أول الأراضي اللبنانية التي ظهرت فوق المياه في أواخر الطور الجيولوجي الثاني وأوائل الطور الثالث، يبلغ ارتفاعه حوالى 2839 متراً، وهو يشرف على الشام وباديتها شرقاً، وعلى البحر المتوسط وجميع جبل عامل غرباً، ومن جبل الكرمل حتى أقاصي حواران والجولان جنوباً، وعلى أكثر لبنان والبقاع شمالاً".

 ويضيف "هو يدعى أيضاً جبل حرمون الكبير، وقد سماه الأشوريون "سانيرو Saniro" والعبرانيون "شانيرChenire" والفينيقيون "سيريون Sirion"، وهذه الأسماء تعني راية أو علم ، وذلك لارتفاعه عن الجبال المحيطة به. كما دعاه العرب جبل الشيخ، لأن الثلج يغطي قممه. وقد كان هذا الجبل مقدساً عند القدماء، وقد عبدوه لأنه محل تجمع الغيوم بسبب علوه، فكانوا يعتقدون أنه واهب الخيرات ومحيي البلاد".

جبل الشيخ: أبو المياه الحقيقي لفلسطين

ويشير الى "ان جبل الشيخ (حرمون) هو ابو المياه الحقيقي لفلسطين، ولا يمكن فصله عنها، دون توجيه ضربة قاسمة الى جذور حياتها الاقتصادية بالذات، ولا يحتاج فقط إلى إعادة تحريج وتشجير، بل وايضاً إلى أعمال أخرى قبل أن يصبح مؤهلاً ليكون خزان مياه البلاد، لذلك يجب أن يخضع كلياً لسيطرة أولئك الذين تحدوهم الرغبة الشديدة، أو يملكون القوة الكافية لاستغلال إمكاناته إلى اقصى الحدود".

ويتابع: "كما يجب التوصل إلى اتفاق دولي يحمى بموجبه حقوق المياه للشعب القاطن جنوبي الليطاني (أي "اليهود" في فلسطين الكبرى) حماية تامة".

الموقع

ويوضح فاعور ان "مزارع شبعا تقع في السفوح الجنوبية الشرقية لجبال حرمون، التي يصل ارتفاعها في قمة جبل الشيخ إلى 2814 م، وهي تضم مجموعة هضاب تبدأ من قمة الزلقا، وهي ثاني أعلى قمة في جبل حرمون، وتنتشر في منطقة جبلية يتراوح ارتفاعها بين 2000 م في الشمال، و 2500 م في الجنوب، حيث تطل في الشمال والغرب على جبل الروس وجبل السُماق، وتشرف في الجنوب على مجرى نهر الوزاني ووادي الحاصباني، كما تتوزع في التخوم المشرفة على منخفض بحيرة الحولة في فلسطين، ويحدها في الشرق والجنوب الشرقي وادي نهر العسل ، ابتداء من النقطة 39 (علامة على ارتفاع 320 م) الواقعة في الجهة الغربية على المسار المؤدي إلى بانياس (قرب جسر بانياس)، وهو المسلك الوحيد الذي يصل لبنان بسورية (من مزرعة المجيدية اللبنانية حتى بانياس السورية)، والتي تلتقي فيها الحدود بين فلسطين وسورية ولبنان".

ويضيف "كما تضم عدة مزارع يزيد عددها على 15 مزرعة كبرى، كانت تسكنها أكثر من 1000 عائلة، يبلغ عدد المنازل فيها 1200، ويُقدر عدد سكانها بحوالى 15 ألف نسمة. وهي تشكل امتدادا طبيعياً للقرى المنتشرة في إقليم العرقوب، بدءاً من بلدة شبعا الواقعة على ارتفاع نحو 1300 متر، تليها كفرشوبا وكفر حمام، ثم مزارع حلتا والدحيرجات، وخربة الدوير، والمجيدية، والوزاني".

ويلفت الى ان "مزارع شبعا تتوزع في منطقة هضاب وأودية تمتد بطول 25 كم على طول وادي العسل بين الشمال والجنوب، وعرض يتراوح بين 13 و14كم، بحيث تزيد مساحتها على 250 كم2 ، وتشمل مزارع مثل النخيلة، مغر شبعا، خلة غزالة، وغيرها. وترتبط هذه المزارع ببلدة شبعا، حيث تقيم العائلات المالكة للأرض".

ويشير الى انه "تاريخياً، كانت المزارع تخضع لمراقبة قوى الأمن اللبناني حتى عام 1958، ثم سيطر الجيش السوري على المنطقة بعد حرب 1948. ومع بداية الستينات، خفّت علاقة أهالي شبعا بأراضيهم. وبعد 1968 تمركزت المقاومة الفلسطينية في المنطقة، وبدأت القوات "الإسرائيلية" بالاستيلاء على مزارع شبعا. وتعتبر المزارع الشريان الاقتصادي الحيوي للمنطقة وتشكل نحو 80% من خراج بلدة شبعا، وتصنف أيضاً امتداداً طبيعياً لخزان المياه الجوفية في المثلث اللبناني- السوري- الفلسطيني. كما انها تعد منطقة ذات أهمية استراتيجية".

ويلفت الى انه "رغم عدم مشاركة لبنان في حرب 1967، فإن "إسرائيل" احتلت مزارع شبعا تدريجياً، فهجّرت سكانها وصادرت أراضيهم. وقد بدأت العملية في 15 حزيران باحتلال مغر شبعا ومزارع أخرى، ثم توسعت في 20 حزيران لتشمل قفوة وزبدين والرمتا، حتى اجتاحت باقي المزارع في 25 حزيران. وفي 26 حزيران دمرت القوات "الإسرائيلية" المنازل والآبار، وأحرقت الحقول في آب، ثم زرعت الألغام وأقامت المراصد العسكرية عام 1972".

ويشير الى انه "في عام 1985 أنشأت "إسرائيل" مستوطنتين في رويسة القرن وزبدين، وحولت المنطقة إلى مركز سياحي للتزلج. وفي عام 1989، أجبرت سكان بسطرة على الرحيل، وضمتها إلى الأراضي المحتلة. وقد سمح الاحتلال عام 1995 لبعض المزارعين بقطف الزيتون، لكن معظم الأشجار كانت محروقة، واكتفوا بالزيارة التفقدية ولم يكرروها منذ ذلك الحين. وبذلك، واصلت "إسرائيل" قضم الأراضي، فسيطرت على مناطق واسعة من كفرشوبا ووادي الخنسا وصولاً إلى مرتفعات جبل الشيخ، حيث اقتطعت أراضٍ استراتيجية تطل على الجنوب اللبناني. وتقدر مساحة الأراضي المقتطعة خارج المزارع بثمانية كيلومترات طولاً وأربعة كيلومترات عرضاً، ما يعكس سياسة التوسع "الإسرائيلية" المستمرة".

بالوثائق:  لبنانية 100%!

ويشدد على انه "يتبيّن بالرجوع إلى بعض الوثائق والمستندات، ثبوت ملكية لبنان لمزارع شبعا، وتؤكد سندات التمليك التي لا تزال بحوزة الأهالي ، لبنانية هذه المزارع، فضلاً عن وثائق وقيود لتصنيف الأراضي ودفع الضريبة وجواز المرور، وهي تضم محاضر ووثائق قيد صادرة عن الجمهورية اللبنانية في محافظة الجنوب، وتابعة لدائرة صيدا العقارية، كما أنها تابعة لبلدة شبعا في قضاء حاصبيا".

لبنانية مزارع شبعا... بين الاتفاقيات

الدولية والتحديات السياسية

ويكشف فاعور ان "الدراسات المتعلقة بمزارع شبعا، وترسيم الحدود الدولية الجنوبية اللبنانية تبرهّن أنها لبنانية منذ القدم، وذلك من خلال المعطيات التاريخية والإدارية والسكانية والقانونية. ويعزز هذا التأكيد عدد من الاتفاقيات الدولية وترسيمات الحدود التي أقرّت على مر السنين".

ويضيف "في ما يتعلق بالاتفاقيات الدولية، تم ترسيم الحدود الجنوبية للبنان بناءً على الخط الفاصل بين المنطقتين الخاضعتين للانتداب الفرنسي والبريطاني في أوائل القرن العشرين، حيث اتفقت الحكومتان المنتدبتان في 23 كانون الأول 1920 على تحديد الحدود التي تبدأ من رأس الناقورة وصولاً إلى بانياس. وفي إطار اتفاقية بوليه- نيوكومب في 17 آذار 1923، تم تحديد الحدود بين لبنان وفلسطين من جهة، وبين لبنان وسورية من جهة أخرى، حيث وضعت نقاط حدودية رئيسية لتوثيق هذا الفصل، ولم يتم وضع علامة رئيسية عند "جسر الغجر" على نهر الحاصباني، مما أحدث لبساً في تحديد دقيق للحدود".

ويتابع : "مع مرور الوقت، وفي كانون الأول 1949، نظمت الأمم المتحدة عملية ترسيم جديدة للحدود بين لبنان وفلسطين، وهو ما نصّ عليه اتفاق الهدنة بين لبنان ودولة الاحتلال الإسرائيلي في 23 آذار 1949، حيث أكد أن خط الهدنة يتبع الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين، وفقاً للاتفاقية السابقة".

ويستكمل "أما بالنسبة للحدود اللبنانية - السورية، فقد تم الاعتراف بخطأ فني خلال رسم الحدود في عهد الانتداب الفرنسي، مما جعل مزارع شبعا تُدرج ضمن الأراضي السورية رغم ملكيتها اللبنانية، وهو ما أكده أصحاب الأراضي اللبنانيون من خلال مستنداتهم العقارية. وفي عام 1946، أكدت الخارجية السورية عدم وجود نية لتعديل الحدود، وفي عام 1949، شكلت لجنة لبنانية - سورية لترسيم الحدود بين البلدين، مما أفضى إلى التأكيد أن مزارع شبعا لبنانية. وقد استمرت الاجتماعات الحدودية بين البلدين في الأعوام 1964 و1967، حيث تم الاتفاق على أن الحدود الدولية بين لبنان وسورية تتطابق مع الحدود العقارية المعتمدة في مسح الأراضي".

ويتابع "في عام 2000، انسحبت "إسرائيل" من جنوب لبنان، ولكن مزارع شبعا بقيت تحت الاحتلال. وقد أكدت الأمم المتحدة في وقت لاحق من خلال الخط الأزرق أن مزارع شبعا هي أراض سورية، وفقا لقرار مجلس الأمن رقم 242، إلا أن لبنان رفض هذا التوصيف وأصر على أن المزارع هي جزء من أراضيه المحتلة. وقد أصدرت الأمم المتحدة القرار 1680 في عام 2006، الذي طالب لبنان وسورية بتحديد الوضع القانوني للحدود المشتركة بينهما، بما في ذلك المناطق التي تُعد غير مؤكدة أو محل نزاع، مع ضرورة تقديم الوثائق ذات الصلة".

ويؤكد أن "مزارع شبعا هي أراض لبنانية تاريخياً وقانونياً، إلا أن وضعها لا يزال معلقاً بسبب التحديات السياسية والإقليمية، خصوصاً المواقف الدولية التي ربطت هذه الأراضي بالجولان المحتل".

الحدود

ويختم فاعور حديثه بالإشارة الى ان "كل المستندات التي ذكرت تؤكد أن مزارع شبعا لبنانية، وهي تضم الأراضي التابعة لأبناء العرقوب، لا سيما بلدة شبعا، وذلك بموجب المعطيات الآتية: السكان وسجلات النفوس، والأرض والسجلات العقارية، وممارسة السلطات الإدارية".

الأكثر قراءة

وليد جنبلاط: "إسرائيل" تتمدد والحرب قادمة وستكون طويلة