اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

الاضطرابات التي شهدتها التجارة العالمية نتيجة الرسوم الجمركية الأميريكية الجديدة، والمخاوف المتزايدة من اندلاع حرب تجارية قد تؤدي إلى حرب عملات، دفعت بأسعار النفط إلى الانخفاض إلى أدنى مستوياتها منذ خمس سنوات. هذه التطورات جاءت في سياق اقتصادي وسياسي معقد، حيث أثرت السياسات الحمائية وارتفاع التوترات بين القوى الاقتصادية الكبرى بشكل مباشر في الأسواق العالمية. ومع استمرار هذه الديناميكيات، أصبحت أسواق النفط أكثر عرضة للتقلبات الحادة، مما أثار مخاوف كبيرة بشأن استمرار العوامل السلبية المؤثرة في الأسعار.

في ظل هذا الوضع، فإن الانخفاض المستمر لأسعار النفط لا يشكل فقط تحديًا للدول المنتجة التي تعتمد بشكل كبير على إيرادات النفط لتمويل ميزانياتها، بل ينذر أيضًا بتداعيات اجتماعية واقتصادية خطرة. فقد يؤدي هذا الانخفاض إلى فقدان آلاف الوظائف في قطاعي النفط والغاز، سواء في الدول المنتجة أو في الشركات العالمية العاملة في مجال النفط وحتى الشركات العاملة في القطاعات المرتبطة. كما أن انخفاض الأسعار يعني تقليص الاستثمارات في مشاريع الطاقة الجديدة، مما قد يؤثر في الإمدادات المستقبلية ويخلق مزيدًا من عدم الاستقرار في سوق النفط. في ظل هذه الديناميكيات المعقدة، ما هي السيناريوهات المطروحة لأسعار النفط العالمية؟ وماذا عن لبنان؟

السيناريو الأول ينصّ على تعافٍ تدريجي واستقرار في الأسواق: في ظل هذا السيناريو، قد تشهد الأسواق تحسنًا تدريجيًا مدفوعًا بعودة الثقة إلى الاقتصاد العالمي، وتحقيق تقدم في المفاوضات التجارية بين القوى الكبرى، خصوصًا بين الولايات المتحدة الأميركية والصين. وإذا كان هذا الأمر لا يزال ممكنًا على المدى القصير، هناك مخاوف من أن تعمد بعض دول الأوبك + إلى ضخ مزيد من الكميات في السوق لتعويض الخسائر الناتجة من انخفاض أسعار النفط، وهو ما قد يؤدّي إلى انخفاض إضافي. من هذا المنطلق، من الضروري على دول الأوبك + لجم الإنتاج بشكلٍ يحافظ على الاستقرار في الأسعار على المستوى الحالي قبل اتخاذ أي إجراء. هذا السيناريو يتفاعل بشكلٍ كبير مع الصدمات الاقتصادية غير المتوقعة ومع التطورات الجيوسياسية على الساحة العالمية.

السيناريو الثاني ينصّ على استمرار التقلبات وعدم اليقين: في ظل هذا السيناريو، تستمر التوترات الجيوسياسية والحرب التجارية القائمة في ظل غياب أي أفق في المدى المنظور، وهو ما يجعل أسواق النفط متقلبة وتتطور في حالة من الغموض، ما يُصعّب على الخبراء التنبؤ بالأسعار، واستطرادًا استحالة وضع ميزانيات دقيقة للحكومات والشركات.

السيناريو الثالث ينصّ على انهيار طويل الأمد لأسعار النفط: في ظل هذا السيناريو، تستمر الحرب التجارية وتتزايد المواجهات الجيوسياسية، مما يُلقي بظلاله على ميزانيات الدول المنتجة للنفط، وبالتالي سيؤدّي إلى خفض الإنفاق، ومعها مشاريع إستثمارية في عدة مجالات، مع التخلّص من العديد من الوظائف في قطاع الطاقة وفي القطاعات المرتبطة به.

السيناريو الرابع ينصّ على حصول صدمات جيوسياسية وأزمات اقتصادية: في ظل هذا السيناريو، قد يؤدّي حدث جيوسياسي كبير، مثل اندلاع صراع في منطقة إنتاج نفط (الشرق الأوسط مثلًا)، إلى فرض عقوبات اقتصادية جديدة كبيرة أو اندلاع حرب قد تؤدّي إلى اضطرابات حادة في سلسلة التوريد، وهو ما قد يرفع أسعار النفط بشكّلٍ مفاجئ قد يؤدّي إلى أزمة طاقة عالمية ويزيد من معدلات التضخم. هذا السيناريو هو سيناريو كارثي لما له من تداعيات اجتماعية وسياسية واسعة النطاق، بخاصة في الدول النامية التي تعتمد بشكل كبير على استيراد النفط لتلبية احتياجاتها.

إحتمال حدوث سيناريو من هذه السيناريوهات رهينة العديد من العوامل، منها السياسات التجارية، التوترات الجيوسياسية، توجهات الطلب العالمي، التقلبات في الأسعار والناتجة من تقلّبات المخزون، التطورات التكنولوجية، سياسات تغير المناخ، السياسات البيئية المُتشدّدة (حالة ألمانيا)، والعوامل البيئية – الاجتماعية – الحوكمة (أو ما يُعرف بالـ ESG). بالطبع كل سيناريو يتأثر بطريقة مُختلفة بالعوامل الآنفة الذكر، من هنا قمنا بمحاكاة (أنظر إلى الرسم البياني) لمعرفة مدى احتمال كل سيناريو، وتوصّلنا إلى أن هناك شبه توازن في الاحتمالات نتيجة عدم اليقين التي يعيش فيها العالم ونتيجة عدم القدرة على معرفة الإجراءات التي يخطط لها اللاعبون الاقتصاديون الأساسيون في العالم، عنيت بذلك الولايات المُتحدة الأميركية، الصين، الاتحاد الأوروبي...

في كل الأحوال، أي سيناريو لا يُعيد الاستقرار إلى الاقتصاد العالمي، سيكون له تداعيات اجتماعية واقتصادية نذكر منها: فقدان الوظائف نتيجة انخفاض أسعار النفط، مما يعني تراجع الاستثمارات وبالتالي خسارة وظائف في الصناعات المرتبطة بالنفط والغاز، وتأثير كبير في التنمية في الدول النامية، خصوصًا في القطاعات الصحية والتربوية والبنى التحتية.

في المقابل استمرار التقلبات في أسعار النفط، قد يُحفّز الانتقال بسرعة إلى الطاقة المتجدّدة لتقليل الاعتماد على النفط.

على الصعيد اللبناني، سيتأثر لبنان إيجابيًا وسلبيًا بانخفاض أسعار النفط العالمية:

- إيجابيًا، من المتوقّع أن تنخفض كلفة الاستيراد نتيجة انخفاض كلفة الشحن، ولكن أيضًا نتيجة انخفاض الفاتورة الحرارية التي تُعَدّ الأعلى في جدول الاستيراد اللبناني. وهو ما له تداعيات إيجابية على القدرة الشرائية للمواطن، وعلى عجز ميزان المدفوعات وعلى عجز الخزينة في آنٍ معًا.

- سلبيًا، من المُحتمل أن تعمد بعض الشركات في الدول الأخرى إلى التخلّص من عمال لديها، بمن فيهم لبنانيون يعملون في هذه الشركات. وهو ما سيؤدّي حكمًا إلى انخفاض تحاويل المُغتربين إلى لبنان، والتي شكّلت رافعة صمود للبنانيين أثناء جائحة الأزمة التي عصفت بلبنان منذ العام 2019.

في الختام، الديناميكيات المعقدة التي تحكم الأسواق العالمية، تجعل مستقبل أسعار النفط يعتمد على مجموعة من العوامل المترابطة. وبالتالي ينبغي على الدول الاستعداد لمواجهة التحديات المحتملة نتيجة الواقع الحالي، خصوصًا في لبنان حيث يجب العمل على الاستفادة من الإيجابيات لمحو أثر أي احتمال سلبي قد يطرأ في المستقبل.


الأكثر قراءة

عون لحوار ثنائي مع حزب الله... لكن ماذا عن الضمانات؟ مواكبة سعودية لترتيب ملف العلاقات اللبنانية ــ السورية شهيد للجيش جنوبا... ولا ضمانات للمناصفة في بيروت