اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


لم يكن قرار قيادة حزب الله بكسر الصمت والخروج بتصريحات علنية حول ملف السلاح عبثيا، ولم يكن بهدف التصعيد كما يوحي خصومه في الداخل، ولم يكن ايضا مجرد رد فعل طبيعي على حملة شعواء، اوحت بان مسألة المقاومة اصبحت من الماضي، بل كانت تصويبا لحوار مفترض ان ينطلق بحكمة وهدوء مع الرئاسة الاولى، وفق مقاربة تضمن مصلحة لبنان وكيفية حمايته من المخاطر، بعد ان انحرف هذا الحوار قبل ان يبدأ، ولهذا كان لا بد من تصويبه.

وفي هذا السياق، تلفت مصادر مقربة من حزب الله الى ان المشكلة لا تقتصر فقط على استعجال البعض اقفال ملف السلاح، وهو امر يمكن نقاشه واقناع الآخرين بعدم صوابيته، الا بتحقيق شروط موضوعية تتعلق بوجود دولة قوية تحمي البلد، بعد انسحاب الاحتلال. لكن المشكلة ان البعض يحاول الترويج لكذبة، تفيد ان  حاملي هذا السلاح مجموعة من الخارجين عن القانون، ويجب محاسبتهم، لكن يمكن التسامح معهم ومنحهم عفوا عن "جرائمهم" اذا سلموا السلاح! هذه المقاربة مرفوضة، ولا يمكن السماح بان تصبح قاعدة للنقاش او السماح باعتبارها مسلمة، من خلال ضخ اعلامي ممول يهدف الى تشويه صورة المقاومة. ولهذا لا يمكن لوم حزب الله على اتخاذ قرار الرد بهجوم اعلامي لمواجهة التضليل الممنهج.

وفي هذا الاطار، لن يمنح حزب الله اعداء المقاومة في الخارج والداخل تنازلات مجانية من خلال حرق المراحل، لهذا ليس مضطرا اليوم الى الاجابة عن اسئلة حول مقاربته للاستراتيجية الدفاعية علنا، علما ان لديه تصورا منطقيا لكيفية استفادة لبنان كدولة من قوة المقاومة، لكن اذا كان ثمة مكان لعرض الامر، فسيكون من خلال الحوار المباشر مع رئيس الجمهورية. اما الاستعجال من خلال وضع قواعد معلبة مسبقة للحوار فهو مرفوض.

وكان حزب الله مضطرا الى الخروج عن صمته، لان الرئيس بدأ يتحدث علنا عن الخطوط العامة ليس فقط زمنيا، وانما حول الركائز الاساسية لهذا الحوار المفترض، ما ينسف ركائز الحوار المفترض. وما اراده حزب الله من خلال الخروج بكلام علني، اسماع من يعنيهم الامر، بان ثمة بيئة حاضنة لا يمكن ان تتحمل هذا الضغط، وكذلك لاعادة الحوار الى مكانه الصحيح في الغرف المغلقة. فالحزب لم يرفض الحوار ولم يضع شروطا حوله، بل رسم اطارا عاما عنوانه كيفية حماية لبنان، وهو امر متفق عليه مع رئيس الجمهورية، وتبقى التفاصيل ومسألة الاولويات خاضعة للنقاش الثنائي. فلماذا محاولة حشر الحزب علنا ومحاولة تعليب الحوار مسبقا. لهذا فان اتهام الحزب بالتصعيد مجاف للحقيقة، لان ما قام به هو رد فعل طبيعي على الحملة ضده، وكذلك هو تصويب للحوار مع الرئيس لانجاحه، وليس اي شيء آخر.

وما يعزز مخاوف حزب الله، ان الحملة لا ترتبط فقط بملف السلاح، وانما بمحاولة نقل لبنان الى ضفة اخرى عنوانها الانبطاح للاملاءات الاميركية و "الاسرائيلية"، تمهيدا لادخال لبنان في اتون التطبيع. ولعل ابرز الدلائل على ذلك الهجمة الممنهجة والقاسية على الرئيس السابق للحزب "التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، الذي يدفع ثمن دعوته لاعتماد العقلانية في مقاربة ملف السلاح، على الرغم من موقفه الواضح حيال حصريته مع الدولة. لكن الهجوم الذي افتتحته بوقاحة المبعوثة الاميركية مورغان اورتاغوس، واكمله عدد من السياسيين والاعلاميين الذين يروجون للسياسة الاميركية، لا يرتبط فقط بملف السلاح، وانما برفض جنبلاط التطبيع مع "اسرائيل"، بدءا بدروز سورية، ومرورا بلبنان، وهو امر يعتبر تجاوزا "للخطوط الحمراء" الاميركية. فواشنطن تريد اظهار ان الشيعة معزولون في موقفهم، باعتبارهم الطائفة الممانعة للانضمام الى الاتفاقات الابراهيمية، وجاء جنبلاط ليكسر هذه السردية، وهم يريدونه ان يدفع ثمن ذلك.

وقد برز في الساعات القليلة الماضية، دليل اضافي على صحة مخاوف الحزب، بعد ان استدعى وزير الخارجية يوسف رجي السفير الايراني مجتبى اماني لوزارة الخارجية، بحجة التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية اللبنانية، لمساءلته بشأن ما نشره على صفحته في منصة "إكس" حول مسألة حصرية السلاح، والتي اعتبرها مؤامرة واضحة ضدّ الدول... وفي ضوء هذا الاستدعاء تطرح تلك المصادر الكثير من الاسئلة حول مفهوم السيادة؟ فهل ما يحق للسفيرة الاميركية او لمورغان اورتاغوس التي استدعت وزير الخارجية الى مقر السفارة في بيروت، واملت عليه مواقف بلادها، ما لا يحق للسفير الايراني؟ وهل يغفل الوزير انه ورئيس الحكومة والوزراء لم يتبوؤا مناصبهم الا بعد موافقة السفارة الاميركية عليهم؟ وماذا عن دور السفارة السعودية ومبعوثها يزيد بن فرحان؟ وكذلك "اللجنة الخماسية" التي فرضت على لبنان تركيبته السياسية الجديدة من اعلى الهرم الى اسفله! هذا غيض من فيض، دولة مسلوبة السيادة والارادة، فهل هي التي تطمئن كل مكوناتها؟ واليس من حق حزب الله ان يطرح الكثير من علامات الاستفهام؟

اما استعجال خصوم حزب الله للتخلص من سلاحه من خلال رفع سقف الضغوط عليه ، فلا يرتبط فقط بحسابات داخلية ضيقة على ابواب انتخابات بلدية ونيابية، بل الامور اكثر عمقا من ذلك، واذا كان هؤلاء يراهنون على حرب "اسرائيلية" جديدة في اطار استراتيجية نتانياهو" الهروب الى الامام" من ازماته الداخلية، ومحاولته تخريب التفاوض الايراني – الاميركي، فان القلق الاكبر يبقى من تغيير في استراتيجية واشنطن في المنطقة، وهو ما تخشى منه "اسرائيل" ايضا.

ووفق صحيفة "هآرتس الاسرائيلية"، فان الخشية من عودة واشنطن إلى فترة "سياسة الركائز" لصاحبها ريتشارد نيكسون... ولفتت الى انه في السبعينيات، قام نيكسون ووزير الخارجية في حينه هنري كيسنجر، ببلورة مبادئ ما سمي "سياسة الركيزتين": حلف أميركي مع إيران في عهد الشاه، ومع السعودية في عهد عائلة آل سعود، الذي سيشكل ركيزتين للمصالح الأميركية في الخليج. الخطة استهدفت ضمان استقرار إقليمي، ووفرة في النفط، ومساعدة متبادلة ضد النفوذ السوفياتي. والآن، في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، يعود المنطق نفسه، ولكن بدلاً من النضال ضد النفوذ السوفياتي، تواجه الولايات المتحدة الصين الآن، وأزمة المناخ، وحروباً منهكة، أبقت الجمهور الأميركي نافد الصبر. الأميركيون يبنون جسراً نووياً مع السعودية، ويتحركون بين الحوار والمنع مع إيران، ويركزون على أهداف جيوسياسية أوسع بكثير من القضية "الإسرائيلية" – الفلسطينية، وقد تكتشف "اسرائيل" أنها لم تعد لاعبة رئيسية، بل ورقة هامشية على الأكثر.

هذا التهميش الذي تخشاه "اسرائيل"، علما انه يحتمل الكثير من النقاش حول صوابيته، الا انه يقض مضاجع حلفاء واشنطن في لبنان، لانهم هامشيون اصلا، ويمكن التخلي عنهم في اطار صفقة اكبر، لهذا يجدون انفسهم في سباق مع الوقت، بينما لا يبدو حزب الله مستعجلا، لديه ورقة "رابحة" بين يديه، لن يفاوض عليها بل يملك تصورا لكيفية استفادة لبنان منها، ولهذا كان لا بد من تصويب المسار، كي ينجح الحوار مع الرئاسة الاولى.

 

الأكثر قراءة

اورتاغوس تشيد برئيس الجمهورية: قائد مصمّم على تعافي وطنه لبنان يترقب التسوية الأميركية ــ الإيرانية كواليس الانتخابات البلدية... بري حريص على المناصفة في بيروت