كان لبنان يسمّى في عهود الرؤساء كميل شمعون وفؤاد شهاب وشارل حلو "بسويسرا الشرق" ليس عن عبث، بل لأنه بين الدول العربية جمعاء كان يتمتع هو وشعبه بنبض حياة لا مثيل له في المنطقة، من حيث التطور على الطراز الأوروبي، كذلك الرخاء الاقتصادي والمعيشي، والسياسة الحكيمة المنفتحة على كل دول وشعوب العالم، كما ومستوى التعليم في المدارس والجامعات، وكان الشعب اللبناني شعبا مثقفا، ويوجد في لبنان ايضا أكبر عدد من الصحف بين دول المنطقة، وكانت حرية الرأي عند اللبنانيين تميزه عن غيره. لهذه الأسباب وغيرها سمي "بسويسرا الشرق".
بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، والتي سيطر خلالها على لبنان كل أنواع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، و دخول أيضآ دول غريبة في الصراع، دخلت أيضآ الكثير من الميليشيات في الدولة وعلى كل المستويات، من مسؤولين سياسيين إلى القوى الأمنية إلى القضاء إلى الإدارات العامة، وحتى إلى القطاع الخاص كالمصارف وشركات المأكولات... وهنا بدأت رحلة لبنان مع الفساد حتى يومنا هذا. 35 سنة من الفساد لم يستطع أي مسؤول مهما علا شأنه اقتلاعه، لا بل للأسف كان أيضآ يصاب بمرض الفساد.
فما هو الفساد؟ "الفساد هو ببساطة إساءة استخدام السلطة أو المنصب أو الموارد العامة أو الخاصة، لتحقيق مكاسب شخصية أو عائلية أو حزبية غير مشروعة، غالبآ على حساب المصلحة العامة أو حقوق الشعب".
في لبنان أشكال الفساد متنوعة جدآ، وحسب تقرير البنك الدولي فقد بلغت نسبة الفساد في لبنان عام 2023 بين 12% و 16% من الناتج الإجمالي المحلي، في حين أن عالميًا متوسط نسبة الفساد تبلغ 2% من الناتج الإجمالي المحلي، وهذا يظهر كم أن نسبة الفساد مرتفعة في لبنان. فإذا كان الناتج المحلي اللبناني عام 2023 حوالى 28 مليار دولار، تكون قيمة الرشى والفساد حوالى 4 مليار دولار قد تقاسمها الفاسدون، أغلبيتهم من المسؤلين في جميع الميادين. كما أن لبنان يحتل المرتبة 157 من أصل 180 دولة في "مؤشر مدركات الفساد" لعام 2023 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، ما يضعه بين أكثر دول فسادآ مثل بعض دول أفريقيا الفاسدة جدآ.
فمثلآ قبل انفجار المرفأ عام 2020 كانت الإيرادات السنوية للمرفأ تقدر بنحو 200 مليون دولار أميركي، إلأ أن ما كان يحول فعليآ إلى خزينة الدولة كان حوالى 60 مليون دولار فقط، أي أقل من 30% من الإيرادات الأجمالية، وذلك بسبب الفساد والسرقة وسوق الإدارة. وهذه معلومات موثقة لدى البنك الدولي، ولا من يسأل ولا من يحاسب ! دون أن ننسى أنه صرف على قطاع الطاقة أو الكهرباء حوالى 40 مليار دولار، وحتى الآن يعاني اللبنانيون من انقطاع حاد في التيار الكهربائي. حتى انتشر منذ بضع سنوات "الإنترنت" غير الشرعي والجميع يعلم من المسؤول، لكن لا أحد يتحرك لسبب وحيد، وهو أن هنالك مافيا من النافذين تتحكم بكل مقدرات الدولة، وحتى بعض القضاء المستفيد لا يتحرك.
بحسب دراسات أجراها البنك الدولي، فإن الفساد المستشري في لبنان يعرقل كثيرًا الدورة الاقتصادية، كما لا يشجع على الاستثمار، فمثلًا في الاتحاد الأؤروبي وفي دول الخليج يحتاج أي شخص إلى 5 أو 6 أيام ليؤسس شركته دون الخروج حتى من المنزل، بل على "الانترنت"، فيما في لبنان يحتاج الشخص إلى أقله 45 يوما، وخروجه على الأقل 7 مرات من منزله، وعندما يحتاج إلى أي موظف في إدارة أو وزارة، فإما أن يدفع مبلغا من المال كرشوى أو تتأخر المعاملة أسبوعين أو ثلاثة.
وصل الفساد في لبنان إلى حد يمكن وصفه بأنه جزء من الثقافة اللبنانية، كما أصبح وقحا لا يخجل أبدًا ينظر إلى عينيك و لا يرف له جفن.
أما على المستوى السياسي فالصفقات كبيرة جدا، ولا يمكن محاسبة اي احد، لأنهم إما مراجع كبيرة جدًا إما أنهم محميون من مراجع كبيرة جدآ، إما أنهم محميون من رئيس الطائفة التي ينتمون إليها، كما لا يمكن محاكمة فاسد كبير من طائفة معينة دون العودة إلى ال 6 و 6 مكرر.
حتى الخدمات الأساسية جدًا لكل منزل وكل مواطن، هي عرضة للفساد، فإذا طلبت ساعة كهرباء أو خط "إنترنت" لمنزلك الجديد، فلن تحصل عليه دون دفع رشى باهظة، أو عليك أن تنتظر طويلًا أو أن يكون لديك واسطة قوية جدًا. لكن الأخطر من كل ذلك أن الشعب اللبناني تعوّد هذا النمط من الحياة، وأصبح يراه طبيعيا جدًا، ويفضل أن يدفع الرشوى ولا ينتظر ولا يشتكي. و"عندمين" يشتكي؟؟ فلكل مسؤول سعر.
فيما القطاع العقاري والبناء يشكل حوالى 17% من الناتج الإجمالي، حسب آخر دراسة أجرتها نقابة المهندسين، والدوائر العقارية في جبل لبنان تفتح أبوابها يوما أو يومين كحد أقصى في الأسبوع، وأي معاملة بيع أو شراء أو رخصة بناء، بحاجة على الأقل إلى سنة ونصف السنة لإنجازها، مع أن الدوائر العقارية في جبل لبنان تدخل أكثر من 600 مليون دولار إلى خزينة الدولة في السنة في حالتها الراهنة، فكيف إذا فتحت أبوابها 5 أيام في الأسبوع وعادت إلى عملها الطبيعي؟ لكن المشكلة الكبرى هي في الدائرة العقارية في المتن، حيث الفوضى تفوق الخيال.
أما أهم الإجراءات التي يجب اتخاذها لمكافحة الفساد فهي:
1- إرادة حقيقية وصارمة من قبل المسؤولين السياسيين على أعلى مستويات في الدولة.
2- إستقلالية القضاء ومنع التدخل السياسي في التعيينات والمحاكمات.
3- إنشاء و تفعيل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ومنحها سلطات تحقيقية.
4- حماية الشهود والمدعين الذين يكشفون الفساد ومنحهم الحصانة.
5- دعم الصحافة الاستقصائية التي تكشف الفساد وتشجيعها.
6- تفعيل جهاز ديوان المحاسبة.
7- إستخدام التكنولوجيا خاصة "الانترنت" في المعاملات، ومنع الاحتكاك المباشر قدر الإمكان مع الموظفين، بخاصةٍ في إدارات الدولة.
8- إنتاج برامج تثقيفية للكبار والصغار في المدارس وعلى شاشات التلفزة، لشيطنة الفساد والفاسدين.
9- إنشاء وسيلة تواصل آمنة بين المواطن وهيئة مكافحة الفساد.
10- إنزال عقوبات قاسية مالية مع سجن الفاسدين مهما علا شأنهم بضمانة رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون.
11- يجب تفعيل جديًا دائرة حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد، لأن الفساد يشمل أيضًا القطاع الخاص.
الشعب اللبناني أمِل خيرا في انتخاب العماد عون رئيسآ للجمهورية، وفي تعيين قاض دولي رئيسا للحكومة، وربما هذه هي الفرصة الأخيرة للبنان للتخلص من سرطان الفساد، الذي دام حتى الآن 35 عاما وكلفه سرقات وهدر بمئات المليارات من الدولارات، وحرم الشعب اللبناني من أمواله في المصارف فيما سمي سرقة التاريخ.
يتم قراءة الآن
الأكثر قراءة
-
الانتخابات النيابية المقبلة ترسم موقع لبنان في التحولات الإقليمية اتصالات بين القوات والتيار في زحلة... وبيروت تفقد المناصفة بغياب المستقبل تشدد واجراءات امنية في ملف الاتصالات بين لبنانيين وعرب الـ 48
-
لمن تقرع طبول العرب؟!
-
تخبّط في زحلة قبل 24 ساعة على المنازلة : "مكره أخوك لا بطل! 50-50 حظوظ تحالفات التيار والتواصل العوني القواتي شمل القيادة!
عاجل 24/7
-
22:43
وزارة الصحة في غزة: 115 شهيدا في مجازر الاحتلال "الإسرائيلي" بقطاع غزة منذ فجر اليوم.
-
22:43
حماس: نثمن إدانة إسبانيا والنرويج وأيسلندا وأيرلندا ولوكسمبورغ ومالطا وسلوفينيا للتصعيد "الإسرائيلي" في الضفة.
-
22:42
يديعوت أحرونوت: نتنياهو أراد المشاركة في حفل تنصيب بابا الفاتيكان لكنه خشي من مذكرة الاعتقال الصادرة في حقه.
-
22:02
هيئة البث "الاسرائيلية" عن مسؤولين عسكريين كبار: لا يوجد أي إنجاز عسكري إضافي يمكن تحقيقه في غزة، وحسمنا المعركة في غزة ويجب ترجمة الإنجازات العسكرية إلى سياسية.
-
22:01
هيئة البث "الاسرائيلية" عن مسؤولين عسكريين كبار: الرئيس الأميركي يريد ازدهارا اقتصاديا وبدأ يتخذ خطوات تضر "بإسرائيل" وتعزلها.
-
22:01
هيئة البث "الاسرائيلية" عن مسؤولين عسكريين كبار: عدم التوصل لاتفاق يعزل إسرائيل" دوليا خصوصا من قبل الرئيس الأميركي، ويجب استغلال الإنجازات في غزة للتوصل لاتفاق لكن ذلك لم يحدث لأسباب سياسية.
