"خير جليس في الزمان كتاب" قالها أبوالطيِّب المتنبِّي، يوم كان للأدباء والشعراء دور في التوجيه والنصح، حيث يعتبر الكتاب منذ القدم أداة أساسية لنقل المعرفة، وبوابة نحو التنوير الثقافي والفكري. وفي لبنان الكتاب له أهمية كبيرة على عدة مستويات ثقافية وتعليمية واجتماعية، نظراً للدور التاريخي الذي لعبه لبنان في صناعة النشر والطباعة في العالم العربي، فقد كان من أوائل الدول العربية التي أنشأت مطابع حديثة، وخاصة في بيروت، التي أصبحت مركزاً أساسياً للنشر العربي منذ القرن التاسع عشر.
يشار إلى أن أول مطبعة في العالم العربي أُنشئت في لبنان عام 1585 في دير "قزحيا"، وتعتبر من أقدم المطابع التي صمّمت لإنتاج نسخ من كتاب "المزامير" بالحرف السريانية في عام 1610، ويقع دير مار أنطونيوس قُزْحَيَّا في قضاء زغرتا في محافظة الشمال.
في زمن تتكاثر فيه الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في لبنان، تغيب أزمة لا تقل خطورة عن غيرها، أزمة القراءة والثقافة، رغم أنها أساس كل نهوض وتنمية، ورغم أن لبنان يتمتع بسمعة تعليمية قوية. والكتاب يعتبر حجر الزاوية في العملية التعليمية خاصة في الجامعات، لكن ذلك لا يعني بالضرورة ارتفاع معدلات القراءة، في ظل تزايد الاعتماد على التكنولوجيا، خصوصاً في لبنان الذي كان يعد رائداً في الطباعة والنشر في العالم العربي، فالكثير من الشباب اللبناني قد لا يقرأ كتاباً كاملاً خارج المنهاج الدراسي، مما يشير إلى غياب العلاقة بين الفرد والكتاب، ويطرح تساؤلات حول نوعية المعرفة التي يتلقاها الجيل الجديد.
عماد وهو طالب في الجامعة اللبنانية، يؤكد بأن لا وقت لديه لقراءة أي كتاب خارج منهاجه الجامعي، مشيرا إلى انه يقضي وقت فراغ إن وجد، في تصفح وسائل التواصل الاجتماعي، "فنحن بحاجة إلى التسلية والترفيه بعيدا عن الكتب".
وحال عماد يشبه حال الكثيرين من طلاب الجامعة في لبنان، وتبدو المعضلة أعمق من مجرد عزوف عن الكتب، لتتداخل مع ثقافة استهلاكية سطحية ، ومجتمع تهيمن عليه "العَزْلَمة" والمظاهر على حساب الفكر والمعرفة.
الجدير بالذكر أن "العَزْلَمة"، مصطلح يستخدمه المجتمع اللبناني في أشارة إلى التفاخر الاجتماعي والمبالغة في المظاهر على حساب الجوهر.
صحيح أن معدلات القراءة تراجعت بشكل ملحوظ بين أوساط الشباب اللبناني، لكن من غير المنصف القول إن "جيل اليوم لا يقرأ"، و إن كان فيه شيء من الحقيقة، لكنه أيضا تبسيط غير عادل. فالشباب اللبناني، في ظل الأزمة المعيشية والانهيار الاقتصادي، يركز معظم طاقته على كيفية الاستمرار والصمود، فكيف نطلب من شاب لا يجد ثمن الخبز أن يشتري كتابا، وهذا حال سارة وهي خريجة جامعية قسم إدارة الأعمال من الجامعة الاميركية، حيث تؤكد بأن" القراءة من أهم هواياتي، لكنني لا استطيع أن اخصص ميزانية لشراء الكتب، فاكتفي بتحميل ما توفر على الانترنت من كتب لقرائتها"، مشيرة إلى أنها تستمتع بالقراءة الرقمية، لكن ليس كقراءة الكتاب الورقي "فإن له طعم آخر".
وبحسب مجلة "سي إي أو وورلد" كشف استطلاع للرأي لعام 2024 بين قراء الكتب في 102 دولة حول العالم، عن أن لبنان أحتل المركز الثالث عربيا والـ 81 عالميا في القراءة، بمتوسط 3.4 كتاب سنويا بإجمالي عدد ساعات قراءة وصلت 77 ساعة.
"بيت بلا كتب جسد بلا روح"، مقولة للمفكر الروماني شيشرون، كلمات بدأتها عبير عاشقة القراءة، "كما تحب ان تصف نفسها"، وهي ربة منزل في العقد الخامس من عمرها ، مشيرة إلى أنها تمتلك مكتبة غنية في منزلها ورثتها عن أبيها ، وهي تسعى إلى الحفاظ على هذا الإرث الثقافي وإغنائه بكل ما هو جديد، من خلال زيارتها معرض بيروت العربي الدولي للكتاب.
يشار إلى أن أول معرض للكتاب في لبنان كان في عام 1956، وقد أقيم في حرم الجامعة الأميركية في بيروت، رعاه المفكر قسطنطين زريق آنذاك، وقد لعب النادي الثقافي العربي دورا مهما في تنظيم المعرض، الذي كان يعمل كمشروع قومي يهدف إلى تعزيز الهوية العربية والثقافة. وقد أُقيمت الدورة الـ 66 من معرض بيروت العربي الدولي للكتاب، الذي يعد من أكبر وأهم المعارض الكتابية في المنطقة، في الفترة من 15 إلى 25 أيار 2025 في قاعة Sea Side Arena، بعد تأجيله في تشرين الثاني 2024 بسبب الظروف الأمنية.
لم يعد الكتاب كما كان في الماضي نافذة شبه وحيدة على العالم، ومرجعا رئيسيا للمعرفة، ومصدرا للتثقيف والتسلية، فالعالم شهد في العقود الأخيرة تحولات جذرية بفعل العولمة، التي غيّرت أنماط الحياة، وأساليب التواصل، ومصادر المعرفة. وفي خضم هذا التغير، بات الكتاب الورقي، الذي كان سابقا المصدر الأول للعلم والثقافة، يعاني من تراجع في الاهتمام والمكانة، حتى صار البعض يتحدث عن "أزمة الكتاب" بوصفها إحدى أزمات العصر الحديث.
يذكر أن العولمة ظاهرة اقتصادية وثقافية وتقنية، تعني اندماج المجتمعات في نظام عالمي موحد، حيث تنتقل المعلومات والسلع والأفكار بسرعة غير مسبوقة عبر الحدود. وادت العولمة إلى شيوع الثقافة الاستهلاكية، وتهميش الثقافات المحلية، وانتشار وسائل الإعلام والترفيه الرقمية، ما أضعف التفاعل مع أشكال الثقافة التقليدية مثل الكتاب الورقي.
مصدر في وزارة الثقافة أشار إلى أن "العولمة بما تحمله من انفتاح وتداخل ثقافي، ليست بالضرورة خطر على الكتاب، بل يمكن توظيفها بطريقة إيجابية تتيح نشر المعرفة وتوسيع نطاقها. إلا أن ذلك يتطلب وعيا جماعيا بضرورة حماية الكتاب من التهميش، وإعادة الاعتبار للقراءة كفعل حضاري وإنساني يضمن بناء مجتمعات مثقفة وواعية". واكد ان "أزمة الكتاب تتجلى في عدد من المظاهر، منها انخفاض نسب القراءة، خصوصا بين فئة الشباب، وتراجع مكانة الكتاب الورقي في المؤسسات التعليمية والثقافية، إضافة إلى هيمنة ثقافة "المعلومة السريعة" على حساب القراءة العميقة، وتنامي سوق النشر السريع لمحتوى سطحي وضعيف الجودة".
يشار إلى أن العاصمة بيروت أحرزت لقب "بيروت عاصمة عالمية للكتاب" عام 2009، وفق ما أعلنت عنه منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو). هذا اللقب يدل على دور بيروت الهام في عالم الكتاب والطباعة، بالإضافة إلى ثقافتها المتنوعة. فلبنان يضم طيفاً واسعاً من التيارات الفكرية والسياسية، وهذا التنوع يعزز من مكانة الكتاب كأداة للحوار والانفتاح، وينعكس على تنوع الكتب المنشورة فيه من أدب، دين، فلسفة، علم اجتماع، وسياسة. فكثير من الأدباء اللبنانيين كتبوا عن الحرب، السلام، الهوية، والمنفى، مما أكسب الكتاب بعداً توثيقياً وتاريخياً.
في بلد يتصارع مع أزمات لا تحصى، يبقى الكتاب ضحية منسية. وثقافة القراءة في خطر، لكن الأمل لا يزال ممكنا، إذا وجدت الإرادة لإحياء قيمة الفكر. وفي هذا السياق أشار المصدر في وزارة الثقافة إلى أنه "رغم هذه التحديات، لا يزال هناك أمل في إعادة الاعتبار للكتاب والقراءة في عصر العولمة، عبر تفعيل دور الأسرة والمدرسة والمجتمع في بناء بيئة قارئة، وتشجيع المبادرات الوطنية والدولية، ودمج التكنولوجيا بشكل إيجابي، من خلال دعم الكتب الإلكترونية والكتب الصوتية، و تحفيز الإنتاج المعرفي المحلي كوسيلة لمواجهة طغيان الثقافة الوافدة".
يذكر أن "جمعية ثقافة الكتاب" أطلقت في العام 2023 مبادرة "ممنوع حدا يكب كتاب"، حيث تلقت كل أنواع الكتب من المتبرعين، أو من الذين لم يعودوا بحاجة إلى كتبهم" سياسية، دينية، فلسفية، قصص أطفال، وحتى الكتب المدرسية، وقامت بتوزيعها لمن يحتاج إليها، إما مجاناً أو بأسعار رمزية.
يبدو الكتاب في بلد يرزح تحت وطأة الازمات ضحية منسية، لكن الأمل لا يزال قائماً، ربما الطريق طويل، لكنه ليس مستحيلا إذا وجدت الإرادة، وتم الاستثمار في الإنسان قبل الحجر، في الكلمة قبل الصورة، وفي الفكر قبل المظهر. فبإمكان الأسرة والمدرسة والمجتمع المدني والمؤسسات الثقافية أن تعيد للكتاب مكانته، وأن تحول القراءة من عادة نخبوية إلى سلوك يومي.
يشار إلى أن المكتبة الوطنية اللبنانية تأسست عام 1921، وفي عام 1924 صدر قانون الإيداع القانوني الذي يفرض على الناشرين أن يودعوا نسختين من مطبوعاتهم بالمكتبة الوطنية. وبذلك نمت مجموعاتها من 20 ألفا هي نواة مكتبة المؤسس فيليب دي طرازي إلى 200 ألف عام 1975، وفي عام 1935 أصبحت تابعة إلى وزارة التربية، إلا أنها تضررت جراء الحرب المشؤومة عام 1975، فتعرضت محتوياتها للضياع والنهب، وأغلقت تماما عام 1979. ونقلت فيما بين 1982 و1983 إلى مبنى داخل حرم الأونيسكو ، وبقيت هناك إلى عام 1997 ، ولم يبق من رصيدها في الأثناء إلا حوالى 150 ألف وثيقة و3000 مخطوطة. وفي عام 1999 أرادت وزارة الثقافة اللبنانية إحياءها من جديد، فوضعت مشروعا لهذا الغرض لترميم المبنى وتصنيف الكتب وفهرستها ، وساعدت على تنفيذ هذا المشروع دولة قطر وكذلك الاتحاد الأوروبي، وقد وضع الحجر الأساس لمبنى المكتبة في مقرها الجديد في مبنى كلية الحقوق في الصنائع يوم 10 أيار 2009.
يتم قراءة الآن
-
لمن قال مسؤول عربي... اذبحوهم؟؟
-
«غسل القلوب» في السراي؟ جهود «للمصالحة» بعد عودة سلام استراتيجية أميركية جديدة و«اسرائيل» تسعى لاجهاض الحوار تحقيقات المرفأ تبلغ القضاة
-
معركة "ميرنا ونيكول"... صراع سياسي بعنوان رئاسة الاتحاد كيف تبدّلت المعادلة الانتخابيّة الى ٢٢ - ١١... تفاصيل الانقلاب المتني
-
عون و "الوفاء للمقاومة": تنسيق بلا ضجيج ... ورسائل لمن يهمّه الأمر! فضل الله يكشف لـ "الديار" أجواء القصر: تفهّم وتفاهم
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
22:30
قوة إسرائيلية معززة بدورية مشاة و جرافة و تقدمت بنحو ٢٠٠ متر قبالة مركز الجيش اللبناني في محيط بئر شعيب في بليدا
-
20:46
ترامب: - أعتقد أن إيران تريد إبرام صفقة.
-
20:46
ترامب: - يمكن التوصل إلى إتفاق مع إيران خلال الأسابيع المقبلة.
-
20:45
ترامب: - يتعين على الأطراف في غزة أن توافق على الوثيقة التي قدمها ويتكوف.
-
20:45
ترامب: الولايات المتحدة تجري "محادثات جيدة جداً" مع إيران.
-
20:45
نرامب: أخبرت نتنياهو أنه من غير المناسب إتخاذ إجراء ضد إيران لأننا نجري محادثات جيدة للغاية.
