اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

وجدت روسيا نفسها يوم 8 كانون الأول المنصرم أمام تحد استراتيجي كبير في سورية، ومن المؤكد هو أن تدخلها العسكري في أيلول من العام 2015، الذي برره سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، في حينها بقوله أمام وفد من المعارضة السورية : «نحن ندافع عن موسكو على أبواب دمشق»، كان يهدف أولا إلى حرف المسارات التي كانت ستقود لتلك الحالة حتما، وعليه فقد انصب المجهود الروسي بعيد العبور إلى هذه الأخيرة على احتواء الموقف أملا بالخروج بأقل الأضرار، لكن الخيارات الروسية، بعد مرور ستة أشهر على الفعل، تبدو محدودة، أو هي في أضيق حالاتها قياسا للعديد من المعطيات والمؤشرات.

ظهر فلاديمير بوتين «جريحا» إبان تصريحاته التي أدلى بها على أعتاب شهرين من سقوط نظام بشار الأسد حين قال إن «موسكو حققت هدفها الذي كان يقوم على عدم نشوء جيب إرهابي هناك»، وأضاف «لقد حققنا هدفنا»، قبيل أن يشرح فيقول إن» الجماعات التي كانت تقاتل القوات الحكومية خضعت لتغييرات داخلية»، والكلام الذي يحمل بين طياته «مغازلة» للإدارة الجديدة كانت قد تزامنت مع قيام الحكومة الروسية بإجراء تعديلات تشريعية لها علاقة برفع تلك التنظيمات، الشريكة بعملية «ردع العدوان»، عن قوائم الإرهاب الروسية، كان يرمي، بالدرجة الأولى، إلى تعويم «توافق المصالح» ليصبح الفعل محددا، وناظما، للعلاقة الروسية مع الإدارة الجديدة، بعيدا عن إرث السنوات العشر المنصرمة التي شابها الكثير ما بين الطرفين، لكن «الألم» سيظهر جليا في تصريحات الكسندر دوغين، الفيلسوف الروسي الذي يوصف في الغرب بـ«عقل» بوتين، عندما قال «لقد أخطأ أردوغان في سورية خطأ استراتيجيا كبيرا، وعليه انتظار الرد الروسي الذي لن يطول».

دخلت موسكو منذ الأسابيع الأولى في مفاوضات مع حكومة دمشق المؤقتة بغرض المحافظة على الوضع القائم في قاعدتي «حميميم» و«طرطوس»، لكن الأخيرة بدت متعثرة على وقع ضغوط أوروبية كانت تهدف إلى إخراج الروس من سورية، والمنطقة، بشكل نهائي، مع لحظ أن الموقف الأميركي لم يكن بالحدة ذاتها مما يمكن لمسه عبر خلو «الشروط الأميركية»، الثمانية المعلنة، من بند يطالب علنا بذلك، ولعل الفعل سوف تتحدد حدته، أو وتيرته، تبعا للتلاقيات، أو الإفتراقات، الأميركية الروسية في الملف الأوكراني، لكن «السخونة» التي شهدتها مناطق الساحل أيام 7 و 8 و 9 آذار المنصرم كانت قد أحيت الآمال الروسية الرامية للحفاظ على نفوذها انطلاقا من الإنفلات الأمني الحاصل منذ سقوط الأسد، والمتنامي ما بعد آذار بوتيرة متصاعدة لا يبدو أنها وصلت إلى سقوفها بعد، حيث ستشهد القاعدة الروسية لجوء ما بين 9 - 11 ألف ممن عانت قراهم من أحداث العنف التي تشير العديد من المؤشرات على أنها كانت ممنهجة إبان تلك الأحداث التي قالت السلطات أنها «جاءت ردا على هجوم تعرضت له مقرات وحواجز الأمن العام».

طرح هجوم 20 أيار الجاري الذي شنه فصيل «بركان الفرات»، وهو فصيل تأسس شهر تشرين ثاني الماضي وهدفه الأساس كان ينصب على محاربة «الإحتلالين» الروسي والإيراني وفقا لما جاء في بيانه التأسيسي، تحديا من نوع مختلف، من حيث أنه حمل بين طياته علامة أكيدة على عدم استقرار الوجود الروسي، لكنه في مقلب آخر يشير إلى أن الإدارة السورية، التي سبق لرئيسها أحمد الشرع أن قال في مقابلة مع «بي بي سي» بثت 25 شباط المنصرم، أنه «منح الضوء الأخضر للروس من أجل البقاء في سوريا»، قد قررت المناكفة بـ«بالوكالة»، فالفصيل المهاجم الذي قالت مصادر سوريه مقربة من السلطة أنه قام بفعلته من دون «علم القيادة»، لكن انتشار عناصره، الذي لا يزال قائما حتى الآن، في محيط القاعدة خصوصا قرية الشراشير التي لا تبعد عنها سوى بضع مئات من الأمتار يشير إلى عكس ذلك، إذ لطالما كانت دمشق تدرك أن الإبقاء على الوجود الروسي راهنا في سورية يمكن له أن يخلق نوعا من التوازن فيها، وقدرا أكبر من المناورة في مواجهة الضغوط الأميركية والإسرائيلية المطبقة عليها، لكن شريطة أن يبقى في حدود غير قابلة للتوسع.

تشير التصريحات التي أدلى بها السفير الأميركي بأنقرة، والمبعوث الخاص لسورية، توماس باراك، بعد يوم واحد من لقائه الشرع ، إلى أن الأخير قدم، إبان لقاء الـ 33 دقيقة الذي جمعه إلى نظيره الأميركي بالرياض يوم 13 أيار الجاري، شيئا هو أقرب للـ«الشيك على بياض» لقاء مطلب واحد هو «المحافظة على وحدة الجغرافيا السورية»، ولربما حصل على «وعد شفوي» بذلك، لكن الصفقة لم تبرم بعد، ولعل من السهل تلمس ذلك في تصريحات توماس باراك التي جاء فيها «منذ قرن من الزمان فرض الغرب خرائط وحدود مرسومة، ووصايات وحكما أجنبيا، فقد قسمت اتفاقية سايكس بيكو سوريا، والمنطقة، لتحقيق مصالح إمبريالية لا من أجل السلام، وقد كلف هذا الخطأ أجيالا كاملة ولن نسمح بتكراره مرة أخرى»، والمؤكد هو أن التصريح الأخير كان رسالة تستهدف «صناديق بريد» عدة بدءا من تل أبيب وصولا إلى موسكو.

كتكثيف لما سبق، يمكن القول أن «مشرط» جديد شبيه بـ«سايكس بيكو» ليس حاضرا في حسابات الأميركان الآن، لكن الصفقة النهائية لم تبرم بعد، وما تشي به الصورة الراهنة يقول بأن اللحظة هي لرسم خطوط التماس، والنفوذ، في ما يشبه «يالطا» سورية، على غرار نظيرتها العالمية التي مضى فيها المنتصرون بالحرب العالمية الثانية لتقاسم مناطق النفوذ في العالم ، لكن التحدي الأكبر أمام الروس الآن هو أنهم لا يجدون أنفسهم بين  المنتصرين كما كان حالهم شتاء،وربيع، العام 1945.


الأكثر قراءة

لا «كيمياء» بين بري وسلام «وخلاف على الهوية» مع حزب الله ضغوط «اسرائيلية» لسحب الطوارئ واجتماع بين صفا والامم المتحدة