اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


في قلب البقاع الغربي، تحديدًا في منطقة غرب بعلبك، حيث يفترض أن يكون الماء وفيرًا، يرزح الناس تحت عبء عطش دائم، يتكرّر عاماً بعد عام. هذه المنطقة التي تتاخم نهر الليطاني وتُطل على اليمونة الغنيّة بمياهها، لا تزال محرومة من نعمة المياه، في مشهد سوريالي يبدو فيه المواطن كمن يعيش على ضفاف البحر ويغرق في الظمأ.

المفارقة، أن المشكلة ليست في نقص الموارد المائية، بل في العقلية التي تُدير هذه الموارد. منطق المحاصصة، التواطؤ، الإهمال والفساد، حولوا حقّ الناس الطبيعي في الماء إلى سلعة باهظة الثمن تُباع وتُشترى، بينما يقف أكثر من 50 ألف مواطنٍ ينتظرون "نقلة" ماء ليملؤوا خزاناتهم، ولو بأضعاف سعرها الحقيقي.

فلم تكن أزمة المياه في غرب بعلبك وليدة هذا العام، أو نتيجة تراجع المتساقطات فحسب، بل تعود جذورها إلى عقود مضت، عندما بدأت شبكة التوزيع تنهار تحت وطأة التعديات، وأُهملت البنية التحتية، وسُمح لفئات محددة بالهيمنة على مسارات المياه.

في السابق، كانت مياه اليمونة، العذبة والنقية، تصل إلى المنازل من فلاوي غرب بعلبك مرورا بشمسطار وحتى أطراف زحلة، دون انقطاع. أما اليوم، فتتوقف هذه المياه عن الجريان في منتصف الطريق، وتُحوّل إلى وجهات أخرى غير مسموح بها قانونيا ولا أخلاقياً، تاركة الناس تحت رحمة الصهاريج والابتزاز.

والنتيجة؟ أزمة تتكرّر كل صيف، يعاني فيها المواطن من غياب المياه، ويدفع ثمنها من صحّته وكرامته ودخله الشهري الذي بالكاد يكفيه للطعام.

المواطن يدفع الثمن مرتين:

مرّة للمازوت... ومرّة للمافيا

يعيش أبناء غرب بعلبك واقعًا مريرًا. "نصف راتبي بيروح على المي"، بهذه العبارة لخص أحد أبناء بلدة طاريا معاناته. فكلفة الصهريج الواحد ارتفعت من 900 ألف إلى مليون وخمسمئة ألف ليرة في غضون أيام، بعد الارتفاع الحاد في أسعار مادة المازوت، ما جعل الحصول على المياه تحديًا يوميا للعائلات الفقيرة ومتوسطة الدخل.

أما في بلدة شمسطار فيضطر السكان بشكل عام الى شراء نقلتين من المياه أسبوعيا، بكلفة تصل إلى مليون و300 ألف ليرة للنقلة الواحدة، أي أكثر من 100 دولار شهريا، وهو مبلغ كبير في ظل الظروف الاقتصادية التي تعصف بالبلاد. ومع ذلك، لا يجدون بديلا، فالمياه لا تصل من الشبكة العامة، ولا من خزانات البلدية، بل من صهاريج خاصة ترتبط غالبا بمصالح ومزارع وتجار مياه، كل منهم يفرض سعره دون رقيب أو ضابط.

ما يزيد من ألم الناس هو معرفتهم بأن المياه التي تُباع لهم بأضعاف سعرها، هي نفسها التي كان يجب أن تصلهم مجانا من اليمونة. لكن تحكُّم فئة قليلة في مجاري المياه غيّر المعادلة، فأصبح المواطن يُجبر على شراء حقّه، وإلّا يبقى عطشانا.

أصحاب الصهاريج: لسنا الجلاد...

 نحن مجبرون على النجاة بأعمالنا

يبرر أصحاب الصهاريج ارتفاع أسعارهم بالقول: "لسنا من قطع المياه عن الناس... نحن فقط ننقلها إليهم حين تتخلّى الدولة عن مسؤوليتها". ويشير أحدهم إلى أن تكلفة التشغيل ارتفعت بشكل جنوني، فكل العملية تعتمد على المازوت: من سحب المياه من الآبار، إلى تعبئة الصهاريج، ونقلها إلى القرى.

بحسب ما قاله أحد سائقي الصهاريج، فإن الزيادة على كل نقلة مياه تتراوح بين 400 و600 ألف ليرة، بحسب بُعد المسافة، "لم نختر هذه الزيادة برغبتنا، بل فُرضت علينا كيلا نخسر عملنا". لكنه لا ينكر أن بعض المستغلين يرفعون الأسعار لأهداف ربحية بحتة، مما يخلق سوقًا سوداء تستغل حاجات الناس.

المعنيّون غائبون...

والعصابات تتصرّف كأنها الدولة

في خضم هذا الواقع المأساوي، لا صوت يُسمع للمسؤولين. لا خطة طوارئ، لا رقابة ولا حتى نيّة حقيقية في المعالجة. ورغم الاجتماعات المتكرّرة بين مؤسسات المياه والبلديات والقوى الأمنية، تبقى النتيجة واحدة: لا شيء تغيّر.

فما السبب؟ علمت "الديار" أن عصابة صغيرة – لا يتجاوز عدد أفرادها العشرة – تتحكّم بتوزيع مياه اليمونة، وتمنع وصولها إلى القرى المحتاجة، وتؤجّرها ليلًا لريّ حقول الحشيشة والبطاطا في دير الأحمر، بوداي، بتدعي، والعلاق، بمبالغ خيالية تصل إلى 1500 دولار لليلة الواحدة.

وبحسب معلومات مؤكّدة، فإن هذه العصابات معروفة بالأسماء لدى القوى الأمنية ومؤسسة مياه البقاع، بل يُقال إن بعض أفرادها مطلوبون للقضاء. ومع ذلك، لا تحرّك الجهات المعنية ساكنًا، وكأن الأمر لا يعنيها.

فليست المشكلة في الطبيعة، بل في البشر. فشبكة توزيع مياه اليمونة، التي كانت تمدّ القرى من فلاوي إلى أبلح، باتت اليوم تحت قبضة العصابة. في المقابل، يرزح أكثر من 50 ألف نسمة في غرب بعلبك تحت العطش، ويدفعون فواتير مضاعفة لصهاريج المياه.

فأحد أبناء بوداي يؤكد أن كبار مزارعي البطاطا باتوا يفضلون زراعة أراضيهم هناك بدلا من قرى أخرى، فقط لأنّ مياه اليمونة المسروقة متوفرة لهم بسخاء. فأصبحت المياه تُهدر لريّ الحقول، بينما الأطفال في المنازل ينتظرون نقطة ماء واحدة.

بين شدّ الحبال الأمني والسياسي...

 المواطن يدفع الثمن

تبادل الاتهامات بين مؤسسة مياه البقاع والقوى الأمنية لا يُسمن ولا يُغني من عطش. المؤسسة تتذرّع بأن القوى الأمنية لا تتعاون لقمع التعديات، والأخيرة تقول إنها تُسيّر دوريات دون أن تلقى تجاوبا من المؤسسة. في النهاية، يتقاذف الطرفان المسؤولية، ويستمر الأهالي في دفع ثمن التخاذل الرسمي.

في ظل هذا الفشل الجماعي، يدعو البعض لتدخّل الجيش اللبناني بشكل مباشر، من خلال إنشاء نقاط مراقبة، وتوقيف فرد واحد فقط من العصابة، كفيل بلجم باقي أفرادها، ووقف مهزلة تقنين الماء على حساب حياة الناس.

بصيص أمل... قد يأتي من سويسرا؟

رئيس دائرة مياه بعلبك وجوارها بسام سلمان يؤكد لـ "الديار" أن "أزمة مياه اليمونة عمرها أكثر من 20 سنة، وأن مستوى المياه بدأ ينخفض، مما قلّص مدى الضخّ ليصل إلى بلدة شمسطار فقط". ويضيف "أنّ التعدّيات على الشبكة، خاصة الخط 16 الرئيسي، باتت لا تُعدّ ولا تُحصى، بالتزامن مع التوسع العمراني وزيادة الطلب". وأشار إلى "أن الحل قد يبصر النور عام 2026 عبر مشروع سويسري لحفر آبار جوفية في اليمونة".

 لكن حتى ذلك الحين، ببقى أكثر من 50 ألف نسمة يعيشون تحت سيف العطش، دون أدنى شعور من المسؤولين بالذنب أو الحرج، وكأن حرمان الناس من المياه صار واقعا لا يمكن تغييره.

في الختام... من يملك الماء يملك السلطة؟

قصة غرب بعلبك ليست قصة بيئية فحسب، بل قصة سياسية - اجتماعية - أمنية معقدة. الماء هنا لم يعد نعمة، بل سلعة. لم يعد يُوزع بالعدل، بل يُقنّن حسب المصالح. والعطش ليس قدرا طبيعيا، بل نتيجة إهمال مزمن وفساد منظّم.

"هل الله مسؤول عن حرماننا من المياه؟ أم أنتم؟"، يسأل أحد المواطنين بحرقة، موجّها كلامه لكل من تسلّم أمانة ولم يصنها. والسؤال الأهم: هل من يستمع؟ وهل من يتحرّك قبل أن يصبح بيع الهواء هو التالي بعد بيع الماء؟

الأكثر قراءة

الارهاب يقرع أبواب مسيحيي سوريا المنطقة في المجهول بعد قرار ترامب الانخراط بالحرب ايران تتجه لاغلاق مضيق هرمز... وتداعيات كارثية مُرتقبة على دول العالم