يواجه لبنان أزمات متلاحقة أنهكت كاهل المواطنين منذ عقود، فمن الانهيار الاقتصادي مرورا بأزمات سياسية وأمنية، وصولا إلى تحديات اجتماعية ونفسية، يعيش أطفال لبنان الحلقة الأضعف والأكثر عرضة للتأثر، وسط واقع اجتماعي وتربوي معقد، حيث تتقاطع ضغوط الأزمات الاقتصادية والسياسية، مع ثقافة تربوية لا تزال في كثير من جوانبها أسيرة النمط التقليدي، الذي يعتمد أحيانا على العنف كوسيلة "تأديب"، تؤثر في نمو الطفل النفسي والسلوكي، وتحد من فرص تطوره السليم.
هذا الواقع المتأرجح يهدد بنشوء جيل يحمل في داخله تناقضات نفسية وسلوكية، ويعيد إنتاج دائرة العنف، ما لم تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية الأطفال، الذين لا يتحملون مسؤولية الأزمات التي تحيط بهم، لكنهم يتحملون نتائجها يوميا في منازلهم ومدارسهم وشوارعهم، فنجد الطفل يقف في منطقة رمادية بين أساليب تقليدية قديمة، تعتمد على القمع والعنف في ظل غياب رقابة فعالة وموارد دعم كافية، وأساليب التربية الحديثة التي تنادي باحترام كرامة الطفل وتنمية قدراته.
التربية الحديثة ليست مجرد نمط تربوي جديد، بل هي تحول ثقافي وفكري في النظرة إلى الطفل وحقوقه، ورغم التحديات التي يواجهها المجتمع اللبناني، بدأت ثقافة التربية الحديثة تشق طريقها ببطء، خاصة من خلال حملات التوعية التي تنظمها الجمعيات الحقوقية والمبادرات المجتمعية، حيث تعمل هذه الجهات على نشر مفاهيم، مثل "التربية الإيجابية" و"الحوار بديل الصراخ"، وتسعى لتدريب الأهل والمعلمين على التعامل السلمي مع الأطفال.
تغيير الاسلوب التربوي جذريًا
تقول رنا وهي أم لـ 3 ابناء "قررت قبل 4 سنوات تغيير أسلوبي التربوي جذريا، بعد تعرض طفلي الأكبر لنوبة هلع في المدرسة نتيجة ضغط نفسي"، وتضيف "كنت أصرخ وأهدد وأعاقب بالحرمان، اعتقدت أني أؤدي دوري كأم، لكن عندما بدأت أقرأ عن التربية الإيجابية، اكتشفت كم كنا نؤذيهم دون قصد، اما الآن فنتحدث معا ونضع قواعد واضحة، والأهم أني أعتذر إذا أخطأت، هذا غير ديناميكية بيتنا بالكامل".
من جهتها، تتمنى فاديا وهي معلمة في احدى المدارس الرسمية أن "تطبق التربية الحديثة، لكن الصف فيه أكثر من 35 تلميذا، كثيرون يعانون من مشاكل منزلية ونفسية، ولا نملك اختصاصيين، ولا أحد يرافقنا كمعلمين لنفهم كيف نتصرف بطريقة بناءة، فأنا أحب تلاميذي، لكنني أحتاج أن أتعلم كيف أتعامل معهم دون صراخ". وأضافت "حتى الإدارة أحيانا تضغط لفرض العقوبات بدل الحوار، والمنظومة التربوية نفسها بحاجة إلى إصلاح"، وتؤكد "أن غياب التدريب والدعم النفسي للمعلمين، يجعل مهمة تغيير السلوكيات التربوية صعبة".
التربية من أصعب
المهن في العالم
التربية الحديثة لا تلغي القواعد، بل تضعها بشكل واضح ومتفق عليه، وتبني علاقة قائمة على الثقة لا الخوف. المستشارة التربوية والنفسية في جمعية "إثراء لبنان" سمر رحمة أكدت لـ"الديار" أن "التربية هي من أصعب المهن في العالم، وتحتاج إلى وعي بأهمية بناء الإنسان بالشكل الصحيح".
أضافت " عندما يتعامل الاهل مع الأطفال بلغة الضرب، يفقد الطفل الأحساس بالامان الذي يعد من أهم الحاجات التي يجب على الأهل توفيرها لاطفالهم، فالمنزل والأهل بالنسبة للطفل هما المكان الذي سيلجأ إليه، في حال تعرض لاي مشكلة في الخارج، لشعوره بالامان الذي توفره له عائلته، والتي ستقف إلى جانبه لحل كل المشاكل" . وشددت على "أن ضرب الطفل يسبب مشاكل نفسية في المستقبل: إنغلاق على الذات، اكتئاب، خوف قلق"، وتؤدي إلى الاحساس بالذنب".
وأشارت رحمة إلى "ضرورة التركيز على التعلم الاجتماعي الانفعالي " social emotional learning" ، ما هي الحاجات العاطفية لكل فرد من أفراد العائلة، إضافة إلى تنمية لغة المشاعر والعاطفة للتعبير عن مشاعرهم لانها تحميهم من المشاكل السلوكية والنفسية فيما بعد بحسب الكثير من الدراسات، وبهذه الطريقة نستطيع بناء اسر صحية وعلاقات صحية مع المحيط".
العنف ضد الأطفال
يشار إلى أن العنف ضد الأطفال يعرف بأنه إساءة معاملة الطفل، وهو الفرد الذي لم يتجاوز عمره 18 عاما، وذلك بتعريضه للعنف الجسدي، أو الايذاء النفسي، أو الإهمال، أو الاعتداء الجنسي ، من قِبل أفراد الأسرة أو أفراد آخرين في المجتمع، أو في بيئة مؤسسية أو تعليمية، وقد يكون الشخص المعتدي على الطفل شخصا بالغا أو قاصرا أو حتّى طفلا.
ومن الأسباب التي تؤدي إلى العنف ضد الأطفال، نشوء الوالِدَين أو أحدهما في أسرة وبيئة تجعل العنف ضد الأطفال يبدو وكأنه أمر طبيعيّ يحدث في كل بيت، إذ إن تعرض أحد الوالدين أو كلاهما للعنف أثناء طفولتهما، قد يكون سببا في اعتبارهما العنف أمرا عاديا.
وتشير الدراسات إلى أن الطفل الذي يتعرض للعنف أثناء طفولته، يكون أكثر عرضة لممارسته في المستقبل، وحاجة المعنِف لتفريغ الضغوطات والانفعالات السلبية والغضب وغيرها من المشاعر، التي يتعرض لها في المجتمع أو العمل، إضافة إلى أثر الأسباب النفسية في المعنف، التي قد تؤدي إلى عدم قدرته على السيطرة على نفسه، والتصرف بعنف.
كما ان أثر المشكلات الاقتصادية، تزيد بدورها الضغوطات على الوالدين، وتشعرهما بالعجز والضعف، مثل: البطالة والفقر وتراكم الديون، وتأثر الوالدين أو أحدهما بما يشاهدانه في وسائل الإعلام كالأفلام التي تشجع على العنف، قصور بعض القوانين والتشريعات الحكومية المعنيّة بحماية الطفل من العنف، قلة الثقافة والوعي بأساليب التربية السليمة والناجحة، غياب أو قلة وجود المؤسسات المجتمعية التي ترصد الأطفال المعرضين أو المحتمل تعرّضهم للعنف بكل أنواعه.
أشكال العنف
ومن أشكال العنف ضد الأطفال:
- عنف لفظي: الألفاظ المسيئة التي يتلفظ بها الأم أو الأب، وفيه توبيخ للأبناء من سب وشتم وعبارات التهديد والإهانة. ويعتبر العنف اللفظي من أكثر الأشكال تأثيرا في نفسية الطفل حيث يفقده أهميته.
- عنف جسدي : الضرب الجسدي سواء باليد أو باستخدام العصا أو أداة حادة، وتترك أثرا في جسد الطفل يصعب إخفاؤه. والعنف الجسدي من أكثر الأشكال وضوحا واثباتا له.
- عنف اجتماعي : الاستهزاء المتعمد بالطفل وإهانته وضربه أمام الآخرين.
- عنف جنسي: استخدام أحد الوالدين الأبناء أو من ينوب عنهما سواء كانوا ذكورا أو إناثاً، لإشباع الرغبة الجنسية بالإكراه أو الخديعة، وفيه انتهاك لخصوصية الطفل وحقوقه الجنسية.
- الحبس المنزلي والطرد من المنزل: كي يتقي الوالدان شر الأبناء عند صدور سلوك سيىء منهم، وعند عدم تمكن الوالدين من تهذيب سلوكهم، يقومان بالحبس في المنزل بالنسبة للإناث، والطرد من المنزل بالنسبة للذكور.
يشار إلى أن العنف يحدث أضرارا عديدة للأطفال على كل المستويات الصحية، والنفسية، والاجتماعية، والسلوكية، والتعلمية، وحتى ولو يتم يتعرض الطفل للعنف بشكل مباشر، فإنه ووفقا للأبحاث قد يتعرض لأضرار نفسية وعاطفية إذا كان شاهدا على العنف بين والديه، ومن هذه الأضرار القلق والاكتئاب والانسحاب الاجتماعي.
وعلى الصعيد العالمي، تشير التقديرات إلى أن عددا يصل إلى مليار طفل في المرحلة العمرية 2-17 عاما تعرضوا لعنف بدني أو جنسي أو وجداني، أو عانوا من الإهمال في العام الماضي.
التربية الحديثة
التربية الحديثة نهج تعليمي يهدف إلى تطوير قدرات الفرد ومهاراته، عبر وسائل تفاعلية تراعي الفروق الفردية، وتركز على تنمية التفكير والإبداع وبناء الشخصية المتكاملة. وتقوم هذه التربية على أسس علمية ونفسية، حيث اكدت رحمة أن "التربية الحديثة تقوم على احترام شخصية الطفل وعدم تعنيفه إن جسديا أو لفظيا، فكل ما يقوله الأهل لأولادهم ينطبع بشخصيتهم، والكلمات السيئة تؤثر بهم، إضافة إلى تشجيع السلوك الإيجابي من خلال الحوار والمكافأة، بدل العقاب الجسدي أو النفسي. فالعائلة كالشركة بحاجة دائما إلى الاجتماع والتقييم من خلال الحوار، وهذا يعزز ثقة الطفل بنفسه واستقلاليته".
واشارت إلى أنه "من الاعتقادات الخاطئة بشأن التربية الحديثة السماح للأطفال بفعل أي شيءٍ يريدونه دون قواعد أو توجيهات"، مؤكدة "على ضرورة وجود قيم لا يسمح بتخطيها مثل الصدق، تقدير الآخر واحترامه، والتواصل مع الآخرين".
إن تبني التربية الحديثة كأساس في بناء الإنسان، يعني وضع أول حجر في طريق الإصلاح الحقيقي، فقد شددت رحمة على "ضرورة الاتفاق بين الأبوين وخاصة امام الأطفال، ودعمهما لبعضهما بعضًا، وإن كان أحد الشريكين على غلط في قراراته التي اتخذها، وأن يتم النقاش فيما بعد بعيدا عن الأطفال، إضافة إلى ضرورة تخصيص وقت لقضائه مع أطفالهم، فهذا يعزز الشعور بالامان و الانتماء". ورأت أنه "من الضروري جدا الاعتذار من جانب الأهل، في حال صدر عنهم أي تصرف خاطئ، وتوضيح السبب وراء هذا التصرف".
اما عن دور الجد والجدة فأكدت أن "دورهما مهم في العائلة، وإن تدخلا في تربية الطفل خصوصا إن كانت العلاقة متينة بين الأطفال وأهلهم، وهناك حدود لا يجب تخطيها"، كما شددت على "ضرورة أن يأخد كل فرد في الأسرة دوره، فللاب دور وللأم دور آخر، ولا يجوز الجمع بينهما".
جيل قوي نفسيا واجتماعيا
يبقى أطفال لبنان أمل المستقبل. وبناء جيل قوي نفسيا واجتماعيا، يتطلب التزاما حقيقيا من صناع القرار والمؤسسات التعليمية على حد سواء، و من الضروري تعزيز التشريعات التي تحمي حقوق الطفل وتطبيقها بحزم، إلى جانب توفير الدعم النفسي والتربوي المستمر للأهل والمعلمين على حد سواء، من خلال برامج تدريبية متخصصة ومؤسسات مجتمعية فعالة، كما يجب إعادة النظر في المناهج التعليمية لتشمل مهارات التعلم الاجتماعي والانفعالي، وتشجيع بيئات مدرسية آمنة تعزز الحوار والاحترام بدلا من العقاب والعنف، فالاستثمار في التربية الحديثة ليس خيارا، بل ضرورة وطنية تسهم في كسر دائرة العنف المستمرة، وتمهد الطريق نحو مستقبل يسوده السلام والازدهار لأطفال لبنان ومجتمعه بأكمله.
يشار إلى أن لبنان وقع على اتفاقية حقوق الطفل عام 1990، وتم إيداع وثيقة التصديق في 14 أيار 1991، لتصبح الاتفاقية نافذة المفعول بالنسبة للبنان في 13 حزيران 1991.
يتم قراءة الآن
-
بشرى سارة من مصرف الاسكان : القرض بات ١٠٠ الف دولار لشراء السكن و١٠٠ الف للبناء و٥٠ الف للترميم حبيب للديار :هدفنا وقف نزف هجرة الشباب ولا وساطات بل منصة تقبل الطلبات
-
إيران انتصرت...
-
المنطقة ترتاح... ولبنان إلى انفراج البطريرك يازجي للشرع: لا يكفينا عزاؤكم و«ما حدا يتباكى علينا» سلام في قطر: الغاز مجدداً وأملٌ بعودة الإعمار
-
ثغرة قانونيّة تطيح المعلّمين وتُجمّل "الجريمة" بالرواتب القديمة! محفوض يُحذّر عبر "الديار" من استغلال المادة 29 لطرد الأساتذة دون مبرّر... ويُلوّح بالقضاء
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
11:21
مصدر رئاسي أوكراني يؤكد لـ"ا ف ب" أن الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي والرئيس الأميركي دونالد ترامب سيعقدان لقاء الأربعاء
-
11:15
وكالة الأنباء السورية "سانا": أصوات الانفجارات التي سُمعت وأعمدة الدخان التي شوهدت في ريف جبلة ناتجة عن اندلاع حريق في موقع عسكري سابق ما أدى إلى انفجار عدد من الصواريخ الموجودة داخله
-
11:09
الخارجية الإيرانية: لن ندخر جهداً في تعزيز التفاهم والتعاون بين دول المنطقة بهدف تحقيق الأمن والاستقرار الذاتي
-
11:08
الخارجية الإيرانية: الرد الإيراني لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يعتبر عملاً ضد دولة قطر الصديقة
-
11:08
الخارجية الإيرانية: نشكر تضامن الدول العربية والإسلامية مع إيران وموقفها الحازم في إدانة العدوان الإسرائيلي الأميركي
-
11:07
الخارجية الإيرانية: العملية ضد قاعدة العديد بقطر تأتي في إطار حق الدفاع المشروع لإيران وفقاً للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة
