اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب



كيف نستطيع استعادة البدر الذي غاب تلك الليلة؟

أنطون سعادة

كان يسابق البشر والريح والقضاء والقدر.

كان يسابق الموت والممرات الضيقة التي نصبها أولاد الأفاعي.

كان يسابق الفقر والحاجة والهجرة الى الأماكن البعيدة.

عاش حياته في سباق منذ كان طفلا الى ان أصبح شهيد الثامن من تموز.

شاكس ولم يكن مشاكسا، هاجم وكان الحمل الوديع، وتكبّر وكان المتواضع والقريب من البعيد والقريب، وكل من التقاه بناء لموعد او صدفة، لمن يعرفه ولا يعرفه. كان له هامة الأصيلة ذات العنق الطويل، كان له طلة النسر الطوروسي، وحضور الحمام الزاجل يبعث رسائل الأمان لكل فئات الشعب.

كم هابه الشرفاء، وعندما صافحوه شعروا بأعلى درجات الأمان.

كم خاف منه سماسرة مصالح الشعب، وعندما صافحوه شعروا بالدونية والخطر، وأن الأرض تحت أقدمهم تنذر بزلزال.

ما كان وسطيا ولا توفيقيا، لم يحب الاعتدال يوما، لم تعرفه مسافة الفصل بين الحق والباطل ولم تر وجهه، كان مع الحق وقاتل الباطل.

هو الطائر المسافر الذي بنى له في كل دسكرة ببلاده ذكرى وموقفا وحدثا روته الأجيال للأجيال.

هو الطائر المهاجر الذي عطر البلدان بعطر أنفاسه الطيبة.

هو الذي ملأ الدنيا همسا وحديثا فوق العادة، وعاد على متن التحدي للأقربين قبل البعيدين، ليرسم لوطنه خريطة العز والكرامة.

هو الطائر الذي حلق فوق الربوع ولم يتعب، وعندما باغتته رصاصة الغدر، سقط الريش ولم يسقط الجناحين ولا الجسد، وبقي يحلق غير آبه بالعوائق.

هو هذا العطاء الذي كان لنا، وكنا لكل الأشياء ولم نكن له.

هو هذا الصباح الربيعي، هو هذا المساء التموزي.

يا الله ما أتعسنا، لماذا أصبحنا هذا الخرير الذي يُسمع بكل أطراف الدنيا، ويعجز عن ترطيب الأرض بنقاط تعيد لها بعض شوقها للنبت الصالح، ولم نعد السكر الذي يخيف ويروي الحقول المشتاقة الى ارتداء الثوب الأخضر.

يا الله كم كنا أطفالا وما زلنا، نحن الذين حدّثنا ذات ليلة عن ذاك الامر، الذي يُحضّر له في تلك الليلة وما سمعنا، كنا نسمع الوسواس الخنّاس، وكما قال أحدهم "كنا مجموعة من الأولاد لا نفهم ماذا يقول، نصر على ان نخاف منه لحظة يمنحنا الأمان، نغار منه ونحاول ان نكون مثله، نريد ان نغادر، ولكننا كلما هممنا للمغادرة نشعر بأننا سنكون أوراقا تلعب فيها الريح وتحطها حيث يشاء القدر".

كثر هم الذين كانوا يتمنون رحيله الى أي مكان، وظنوا إن اعلان الثورة يحقق لهم الغاية، هم لا يعرفونه، ولا يعلمون انه لا تفرض عليه خيارات، فميزان الخيارات عنده أدق من ميزان الالماز، بعضهم لم يصدق انه سيفضل الشهادة على الرحيل، ويتفوق عليهم ويضعهم في قفص العجز والاتهام. بعضهم كان يريدونه ان يعلن الثورة ويفشل ويُحاصر ويهاجر ويهرب، فيفوزا بما تركه لهم من إرث كبير، وينجحوا بعد ان فشلوا في عرقلة عودته الى الوطن.

ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.

في كل مرة يعتقدون انهم انتصروا عليه، يأتي اليهم من حيث لم يدروا، مبتسما بصدر واسع بوجه بشوش، وكأنه لم يكن يسمع ولم يكن يرى، هو الذي سمع نبض الكون ورأى الماضي والحاضر والآتي.

هل حقا ان آخر كلماته كانت شكرا.

آخ منك أيها الزعيم، لو أخبرتنا لمن تقول شكرا؟ للجندي الذي أطلق الرصاص، او للرصاص او لأولئك الذين دبروا امر الاغتيال، او للذين سكتوا ولم يحركوا قشة من مكانها. شكرا، ما أكبرها وما أوسعها وكم هي متفرعة دلالاتها.

أغتالك زناة النهار مرة واحدة، أما زناة الليل يغتالونك كل ليلة، وزناة النهار يصفقون لهم.

وفاء للثامن من تموز، يلتقي المؤمنون مطلع الفجر في كل بقاع الوطن وفي جهات الكون الأربع، يهتفون باسمك ينظرون الى عينيك يستمعون الى نبض قلبك، ليتأكدوا انك ما زلت كما كنت، دائما على عجل وفي سباق مع الزمن والاحتلال ومشاريع الهيمنة، فيرفعوا اليد زاوية قائمة ويعودوا على امل، وتجول الأفكار في العقول، ويرافقهم السؤال الكبير: كيف نستطيع استعادة البدر الذي غاب تلك الليلة؟

الأكثر قراءة

بري الذي أذهل المبعوث الأميركي