اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


في زوايا البيوت، في الساحات، في الصفوف، في المقاهي، وحتى في السيارات، بات مشهد الطفل الممسك بهاتفه الذكي مألوفا، بل متكررا إلى حد الاعتياد. هناك خلف الشاشات الصغيرة، يختبئ الأطفال غارقون في عوالم افتراضية،  في بلد يرزح تحت وطأة أزمة اقتصادية حادة، وانهيار في النظام التعليمي والصحي، وغياب شبه تام للسياسات الاجتماعية الوقائية.

 فمع الانقطاع المتكرر للكهرباء، وافتقار البنية التحتية الى أبسط وسائل الترفيه، وعجز العديد من الأسر عن تأمين بدائل تربوية أو نشاطات خارجية، يجد الأهل أنفسهم أمام حل سريع يتمثل في تسليم الهاتف الذكي للطفل كوسيلة لإلهائه، أو حتى لإراحة أنفسهم مؤقتا، فيتحول الهاتف إلى "حاضن رقمي" يملأ فراغ الطفولة، ويحل مكان المدرسة واللعب والتفاعل الاجتماعي.

لكن هذه "الراحة المؤقتة" سرعان ما تنقلب إلى تهديد خفي، إذ تفتح الباب أمام مخاطر نفسية واجتماعية وصحية جمة، لا سيما في ظل غياب أي رقابة فعالة على المحتوى الرقمي، أو توجيه تربوي لما يستهلكه الطفل عبر الشاشات.

شهادات حية

وهذا ما تعكسه شهادات الأهل، فتقول رشا وهي أم لـ3 أطفال "أنا أشتغل طول اليوم، وما بقدر آخد أولادي على ملاعب أو نواد، لان الحالة الاقتصادية لا تسمح والمعاش لا يكفي".

 أما سامي وهو أب لطفل يعاني من مشاكل في النطق، فيوضح" لم أكن أعلم أن استخدام الموبايل بكثرة ممكن أن يسبب تأخرا في النطق، لكن الطبيب قال لي إن ابني مدمن على الألعاب ولا يتفاعل مع العالم الحقيقي، وهذا سبب تأخره في النطق."

ولا يقتصر الأمر على البيوت، بل يمتد إلى الصفوف الدراسية، فقد لاحظت منى وهي معلمة في المدرسة الرسمية، أن "الكثير من التلامذة اليوم يعاني من ضعف في التركيز، وقلة الحافز، وتراجع في مهارات القراءة والكتابة، وهي مؤشرات مقلقة تنذر بجيل قد يفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات التعليم النوعي".

التأثيرات النفسية والسلوكية

من هنا، تؤكد الاختصاصية في تربية الأطفال وعلم النفس العيادي رين الراعي لـ"الديار" أن "الطفولة الرقمية أزمة من الازمات المتتالية في لبنان وعلينا دق ناقوس الخطر، فهناك أجيال تعاني من أمراض متعددة، ليس فقط  بسبب التعرض المفرط للشاشة، بل بسبب تقكك العائلات وغياب الأهل، وقلة المعرفة والوعي التربوي" ، مضيفة "هناك العديد من العائلات الميسورة يعاني أطفالها من حالات مرضية متعددة، بسبب غياب الوعي الكافي وعدم حضور صحي وسليم ومتوازن للأهل في حياة الطفل، الذين هم أهم من أي شيء آخر في حياة أطفالهم والعكس صحيح، ما يعني أن العامل الاقتصادي لا يؤدي الدور الحاسم في التربية، بل الوعي هو الأساس في حماية الأطفال من المخاطر المحيطة بهم."

وتشرح بالتفصيل التأثيرات النفسية والسلوكية للتعرض المفرط للشاشات، فتقول: "يؤدي ذلك إلى اضطرابات في السلوك والنمو، مثل اضطراب طيف التوحد، وتأخر في اللغة والتعلم، إضافة إلى سلوكيات عدائية، صعوبة في التواصل، وقلة تركيز وانتباه، وصولا إلى العزلة الاجتماعية وانخفاض الثقة بالنفس، الشعور بالاكتئاب. كما يعاني الطفل من الإرهاق النفسي والجسدي بسبب قلة النوم أو اضطرابه، إلى جانب تراجع النشاط البدني، ما يؤدي إلى زيادة في الوزن وتغير في العادات الغذائية ومشاكل في البصر والعمود الفقري".

اشارة هنا الى ان نقابة الأطباء في لبنان حذرت من تزايد حالات ضعف البصر ومشاكل النوم والتوتر العصبي لدى الأطفال، المرتبطة بالاستخدام المفرط للشاشات.

خطاب الكراهية واللغة البذيئة... وجنس

انطلاقا من هذه المخاطر، تقدم الراعي خطوات عملية ضرورية تبدأ من داخل البيت، موضحة أن "منع الشاشات في أوقات محددة، كالصباح وأثناء الطعام، أمر أساسي لأنه يتيح للطفل التواصل مع الآخرين ومشاركة الحديث والتعبير عن الذات"، وتشدد على "ضرورة منع وجود الشاشات في غرف النوم، حيث يصعب على الأهل ضبط استخدامها".

كما تحث الأهل على "أن يكونوا قدوة في استخدام الشاشات، لأن الطفل يتعلم من خلال الملاحظة، ولا معنى لنصحه بترك الهاتف فيما هم غارقون فيه"، وشددت على "أن الحل لا يكمن فقط في ضبط الطفل، بل في تعديل سلوك الأهل أنفسهم، فإذا حاول الطفل الحديث مع والديه ووجدهما منشغلين بالشاشة، فسيعتاد بدوره التجاهل وعدم الاستماع، مما يؤثر سلبا في تواصله مع الآخرين".

واشارت إلى ضرورة  اعتماد اسلوب التحفيز والمتعة وتوجيه الطفل نحو المحتوى التعليمي، سواء عبر البرامج التعليمية الهادفة أو التطبيقات التربوية المصمّمة خصيصا لعمره، شرط أن يكون هذا الاستخدام تحت إشراف ومرافقة من الأهل".

ووفقاً لتقرير من DoSomething.org، أكثر من 50% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و12 عاما، قد تعرضوا لمحتوى غير مناسب عبر الإنترنت، يمكن أن يشمل المحتوى غير المناسب كل شيء من خطاب الكراهية واللغة البذيئة إلى اللغة العنيفة والصور وإعلانات للراشدين ومقاطع الفيديو الجنسية.

بدائل واقعية وجذابة

واكدت الراعي على "ضرورة توفير بدائل واقعية وجذابة للطفل تغنيه عن الشاشة، كالأنشطة العائلية، واللعب المشترك، وإحياء الألعاب التقليدية، والخروج إلى الطبيعة. فهذه النشاطات تحمل في طياتها الكثير من المتعة والفائدة، وتساعد على تعزيز الروابط العائلية. فالحد من أضرار الشاشات لا يقتصر على المنع، بل يجب أن يوازيه تقديم بدائل واقعية"، لافتة إلى "أهمية التوعية بأسلوب القصة بدل التعليمات".

كما نصحت الأهل "بضرورة التواصل مع جمعيات ومراكز تقدم أنشطة للأطفال بأسعار رمزية أو بشكل مجاني، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة". لكن في المقابل، حذرت "من اختيار مؤسسات عشوائية، مؤكدة على أهمية التأكد من أن هذه الجمعيات تعتمد أنشطة مدروسة، وتشرف عليها كوادر مؤهلة ومدربة على التعامل التربوي السليم مع الأطفال. فالهدف من هذه الأنشطة يجب أن يكون تنمية قدرات الطفل العقلية والاجتماعية والنفسية، وليس مجرد "إبعاده" عن المنزل لإراحة الأهل".

خطر الادمان... والعلاج

وتضيف " الخطر الأكبر، هو الوصول إلى مرحلة الإدمان على الشاشات، وهنا يصبح العلاج ضروريا وليس خيارا ثانويا، وعدم الاكتراث من قبل الأهل يعني دفع الطفل نحو حالة مرضية بامتياز، سواء على الصعيد النفسي والعقلي أو حتى الجسدي. ففي كثير من الحالات، يؤدي الإهمال أو التأخر في التدخل إلى تفاقم الأوضاع وظهور اضطرابات قد يصعب معالجتها لاحقا، ويجب أن يشمل العلاج الأهل والطفل معا، فالطفل لا يمكن فصله عن محيطه الأسري، فهو يستمد أمانه ومرجعيته من الأهل والبيت".

كما توجهت بنصيحة واضحة للأهل "لا يمكننا أن نأخذ الشاشة من الطفل فجأة ومن دون تحضير نفسي. فمثل هذا القرار المفاجئ قد يولّد لديه مقاومة وعدائية. لذلك، من المهم أن نختار الوقت والطريقة المناسبة، وأن نسمح له أولا بالتعبير عن انزعاجه، ثم نشرح له الأسباب خلف هذا القرار، بأسلوب هادئ وواضح".

وشددت على ضرورة "تحديد وقت استخدام الشاشة بوضوح، على أن يتراوح بين نصف ساعة وساعة يوميا كحد أقصى، وذلك بحسب عمر الطفل، فالطفل في سنّ صغيرة (دون السادسة) يكفيه نصف ساعة يوميا، أما من بلغ سن السادسة وما فوق، فيمكن السماح له بساعة واحدة فقط في اليوم، وليس أكثر".

تراجع في المهارات الكتابية واللفظية

وفق دراسة أجرتها "الجامعة اللبنانية الدولية" بالتعاون مع مجموعة من الاختصاصيين التربويين، إن 78% من الأطفال بين 6 و12 عاما في لبنان يقضون أكثر من 3 ساعات يوميا على الموبايل أو التابلتن ، ومن بين هؤلاء 65% يستخدمون الجهاز في غرفة مغلقة أو بعيدا عن رقابة الأهل.

وأظهرت الدراسة أن نسبة التركيز لدى التلامذة في المدارس الرسمية انخفضت بنسبة 40% خلال السنوات الماضية، مع تراجع ملحوظ في المهارات الكتابية واللفظية.

كما أعلنت منظمة الصحة العالمية أن "إبعاد الأطفال الأقل من عامين عن الأجهزة اللوحية ضروري جداً، بسبب عدم اكتمال نضج جهاز الإبصار للطفل بعد، ويصعب عليه التعرض للضغط المستمر والنشاط البصري الخاص بالشاشة، مع تدهور نمو طبقات العين المعنية بالإبصار، مسبباً مشكلات بصرية عديدة للطفل، ويؤثر في معدله في اختبارات اللغة والتفكير. والأطفال الذين قضوا أكثر من 7 ساعات، عانوا ترققًا في قشرة الدماغ المسؤولة عن المهارات الاستنباطية والتفكير النقدي، مع وجود صعوبات في مشاركتهم في الممارسات غير الالكترونية كاللعب في الهواء الطلق".

وتوصي منظمة الصحة العالمية بإرشادات متفق عليها دولياً، بعدم استخدام الشاشات للأطفال دون سن الثانية، وأقل من ساعة واحدة يومياً للأطفال الذين تتراوح سنهم بين 2 و5 سنوات، ومع ذلك، فقد أظهرت الأبحاث الحالية باستمرار أن ما يصل إلى 80 في المائة من الأطفال في سن الثانية، و95 في المائة من الأطفال في سن الثالثة على مستوى العالم، يتفاعلون مع الشاشات الرقمية فوق المستويات الموصى بها.

تواصل فعال بين الأهل والأطفال

بدورها، أكدت المستشارة التربوية والنفسية في جمعية "إثراء لبنان" سمر رحمة لـ"الديار"، أن "الجلوس المطوّل للأطفال أمام الشاشات يؤثر بشكل مباشر في سلوكياتهم وقدراتهم العقلية"، وأوضحت أن "هؤلاء الأطفال غالبا ما يظهرون حالات من العصبية الزائدة، ويعتادون نمط حياة سريعًا، فلا يعرفون الصبر أو الانتظار، ويتوقعون الحصول على كل شيء فورا".

وأضافت "أن الاستخدام المفرط للشاشات يؤدي إلى مشاكل في العلاقات داخل الأسرة، وخصوصا بين الإخوة، إذ يتراجع لديهم استخدام التفكير المنطقي، وتتأثر علاقاتهم الاجتماعية حتى عندما يرغبون في اللعب، فإنهم يميلون إلى الألعاب الإلكترونية "أونلاين"، ما يضعف مهاراتهم الاجتماعية ويؤثر سلبا في نموهم العاطفي والجسدي والنفسي، ويؤدي إلى الشعور بالعزلة والاكتئاب، وتنعكس سلبا على العلاقة مع المحيط".

وتدعو رحمة إلى "ضرورة بناء تواصل فعال بين الأهل والأطفال، عبر شرح واضح للعواقب، ووضع قواعد استخدام محددة وثابتة، مع الالتزام بها من الطرفين"، واشارت إلى أنه "استنادا إلى دراسات حديثة، ليس دائما شعور الطفل بالملل أمرا سلبيا، بل قد يكون محفزا لإبداعه العقلي، ودافعا له للبحث عن أنشطة مفيدة لملء فراغه".

الهاتف الذكي والشاشات بكل أنواعها ليست عدوا في ذاتها، بل أداة يمكن أن تكون مفيدة أو مدمرة، بحسب كيفية استخدامها. والأهل، في هذا السياق، ليسوا مجرد مراقبين، بل فاعلون أساسيون في بناء علاقة صحية بين أطفالهم والتكنولوجيا فالوقاية تبدأ من الوعي، والحل يبدأ من المنزل.

الأكثر قراءة

إنذار سعودي أخير وخطير للبنان