اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


كم أحببت طريق بيروت- دمشق، فعندما أسلكه تتراكم مشاعر وحدة البلاد، وأكاد أراها واقعا لكثرة ما كانت تراودني الصور الجميلة للزمن التالي.

لم استطع يوما المقارنة بين دمشق وبيروت، فهما القلب الواحد بالجهتين، ومنهما تنطلق دورة الحياة في الجسد الواحد. على هذا الطريق كنت اتنفس الهواء المنعش، اتنفس الحرية وأشعر بانشراح يأخذني الى الصورة التي أرسمها لبلادي.

تلك الليلة لم تكن كبقية الليالي التي قضيتها في الشام، والعودة هذه المرة قد تكون  الأخيرة، فهي ليست بإرادتي بل بإرادة من خان العهد والشرف والكرامة.

تلك الليلة كانت دمشق أجمل من جميلة وكنت أرى الطريق الى بيروت حزينة كأنها تعرف انها المرة الأخيرة التي سأسلكها.

بعد ان واجهت الخائن ولعنة الخيانة ترجلت من على منبري وصعدت الى سيارة الامن العام اللبناني المكلّفة نقلي الى لبنان.

الشيء الوحيد الذي سرني في عودتي الى بيروت هو اختفاء الحدود المصطنعة، فانتقلت من الشام الى لبنان دون ان اتوقف على الحدود من الجهتين اللبنانية والشامية، ولم يطلب احد هويتي ولم يسألني احد لماذا انت عائد الى لبنان في هذه الساعة المتأخرة من الليل.

نسيت الخطر، نسيت ما ينتظرني في بيروت، لأنني في تلك اللحظة اعتبرت ان العبور دون ابراز الوثائق الرسمية، سينفذه أبناء عقيدتي في القريب العاجل.

عندما وصلنا الى وادي الحرير تذكرت يوسف العظمة وميسلون والخيانة التي أودت بروحه، لست ادري ان كانت حالتي ستشبه ما حصل ليوسف العظمة.

كانت خطة يوسف العظمة ان يقاتل الفرنسيين في راشيا ومجدل عنجر وشتورة ورياق وصولا الى قمم سلسلة جبال لبنان الشرقية، لكن الخيانة فعلت بعكس ما أراد، فقاتل في ميسلون مع حفنة من الجنود حتى استشهد. صعبة هي الخيانة ولكن الأصعب منها التخلي والتراجع.

تذكرت فخر الدين ومعركة عنجر وكيف نختلف على الحوادث في تاريخنا، واننا لم ولن نجد منطقة وسطى بين الخيانة والبطولة، وهكذا بعض اللبنانيين يرون فخر الدين بطلا وبعضهم يرونه عميلا للغرب.

نحن لا نتفق على كتابة التاريخ، لأننا نختلف على الهوية.

يا لتعاستي ماذا سيكتب التاريخ عني اذا لم ينتصر رفقائي أبناء عقيدتي بعدي.

أعتقد ما يحرج اعدائي انني كنت قائدا وصاحب نظرة جديدة للحياة والكون والفن. ان حقّروا القيادة فهم عاجزون عن تحقير عقيدتي ونظرتي الى الحياة والكون والفن.

بدأت اشعر بالمنعطفات، نحن في ضهر البيدر.

بقاع الخير وراءنا وبيروت مدينة الشرائع امامنا، هكذا يجب ان نكون.

جميل ان تشعر انك على ضهر البيدر، فتتذكر قصص بيادر الخير على امتداد الوطن السوري. جميل ان تشعر انك على ضهر نقطة الفصل وقمة الوصل بين الشرائع ومواسم العطاء.

انا من بيادر العطاء المؤسسة لمواسم الزرع ومواسم الحصاد والمتفاعلة مع مدينة الشرائع، فهل تنصفني مدينة الشرائع وانا من كتب شرعا جديدا لدولة الامة والمجتمع وكل دول العالم ومجتمعاته.

لا لن تنصفني حتى انها ستحرمني من الدفاع عن نفسي، بيروت لم تعد مدينة الشرائع أصبحت مدينة أجهزة المخابرات السياسية والثقافية والفكرية والعسكرية، غلبها تعدد الألوان الوافدة اليها فصارت لوحة بألوان غير متناسقة متنافرة أصبحت بيرت مدينة بشعة، فقدت لونها الأصلي، اللون االتركوازي الناتج من مزج لون البحر والسماء ولون القمم الجبلية، غلب تعدد الألوان الصباغ الارجواني فصارت لوحة بألوان متناقضة لا تقبل التفاعل.

لماذا كُتب عليك يا بيروت ان تكوني شاهدة على أبشع جرائم العصر؟

أصبحنا على المنحدر الآخر من ضهر البيدر وها نحن ندخل الى بيروت المدينة التي لا تعرف النوم ولا الصمت، اقتربنا من لحظة الحقيقة، اقتربت لحظة المواجهة التاريخية بين النهضة وغاية الحزب والفلسفة السورية القومية الاجتماعية، وجماعة مستنقع المياه الآسنة الآتية من كل مزابل الأمم لتقيم مزابل للأمة.

أصبحت على مشارف نهاية المشوار، طلبي الوحيد ان أقف في المحكمة لا لأدافع عن نفسي، بل لأدافع عن نهضة تريد ان تبعث الحياة في الامة وعن أمة تتناهشها ذئاب العالم كما تتناهش ذئاب الغابات طرائدها الثمينة.

توقفت السيارة أنزلوني الى الأرض، عرفت انني أصبحت في بيروت.

بيروت المدينة التي حضنتني وحضنتها سنوات عديدة، اعرف انها منزوعة الإرادة والقرار لذلك اسامحها مهما كانت نتائج الاعتقال.

في تلك الليلة أودع طغاة بيروت الشرائع في موقد النار لأنهم يريدون ان يحكموا باسم السلطة الخائنة وليس باسم محكمة الشعب.

كان الوقت المستغرق بين نزولي من السيارة ودخولي الى غرفة التوقيف عمرا طويلا وكانت المسافة بينهما أطول من المسافة بين بيروت ودمشق. أحسست بأنها المرة الأولى التي أغادر النور الى العتمة، انا الذي دخلت السجون عشرات المرات وفي كل مرة كنت اشعر اني اغادر الضوء الى الضوء وكنت اعتبر ان غرفة التوقيف والسجن محطة، اما هذه المرة فشعرت انها المرة الأخيرة التي أزور فيها غرفة التوقيف.

منذ كنت طفلا كنت في سباق دائم مع الاحداث والوقائع وكنت اسبقها، هذه المرة سبقتني واعتقد انها ستنتقم، لكنها لم تكن تعلم ان انتقامها سيجلب الويل لها.

الأكثر قراءة

إنذار سعودي أخير وخطير للبنان