في الزمن الذي طغت فيه الرواية ذات السرد الذي يحتاج نفسًا طويلًا، نجد أن القصة القصيرة ما زالت تقاوم، ليس بطريقة المنازلة والصدام، بل عبر انحياز بعض كتّابها إلى جوهر شعريّ خالص، فهي نوع أدبي يحافظ على خفّته وكثافته معًا، ويمنح اللحظة المتوتّرة لغتها المناسبة. وفي هذا السياق تقول فيرجينيا وولف "هكذا نخلق الجوّ، الكثيف والعام في آن واحد، المرسوم في إيقاع منتظم ومتكرر، وهو ما يكون الشعر بطبيعته أصدق أشكاله التعبيرية"، وتؤكّد الفكرة نفسها باربرا كينغسولفر حين تعتبر أن "القصة القصيرة الكاملة تشبه الأغنية الكاملة". من هذا المنطلق ندخل عالم مجموعة قاسم الساحلي القصصية الجديدة "طفل المحار طفل المجاز" (دار كاف 2025)، حيث تكثيف الحياة في قصص شاعرٍ حاول تشكيل الحقيقة على شكل صور تومض وتغيب، في أثر واضح في المسافة بين الحقيقة والمجاز.
الساحلي كتب الشعر وكتب القصة، ونراه في مجموعته هذه حاول الابتعاد في قصصها عن لغة الشعر، ولكنها ظلّت ظاهرة ومتحكّمة في أحيان كثيرة في نصوصه، منها ما جاء ضروريًّا وحاجة للنص، ومنها ما جاء على حساب السردية والحدث، ولكن ذلك لم يكن ليقلل من قيمة أية قصة من قصص المجموعة التي تجاوزت الأربعين قصة، وقد توزّعت وانضوت تحت عناوين ثلاثة "محار" و"وجاز" و"مرايا".
في قصص "محار" محاولات كثيرة من قبل الكاتب لأن يخرج من محارة طفولته، من خلال ما جادت ذاكرته عليه فيها، فنجده يعود إلى المدرسة، وهو الذي لم يخرج منها نهائيًّا بل أصبح فيها المدرّس الذي يعيد طلبته تشكيل تلك الصور لديه، ففي قصص مثل "إعانات" و"دمعة محرّمة" و"مارادونا" و"مدرسة جدّتي"، طفلٌ يحكي قصص الحيّ والمدرسة، والحيّ والمدرسة في الريف البقاعي، مكان أشخاصه لا يتغيرون، فالطلاب هم أنفسهم أبناء الحي، والحكايات هي نفسها تبدأ هنا وتُستكمل هناك، أعادنا الساحلي فيها إلى طفولتنا التي ما زلنا نحاول الخروج من المحار الذي عزلنا أنفسنا فيه منذ تلك الأيام، تلك العزلة التي يعرفها من هم مثل الساحلي، مثلي، عاشوا مراحل عزلة وصمت في طفولتهم، والقصص هنا خرجت من القوقعة التي أخفت كنوزًا من المشاعر والأفكار، أخفتها الطفولة، وأظهرتها القصة.
في "مجاز" تكمن روح الشعر و"الأغنية الكاملة" التي بدأت المقال بالحديث عنها، وفي هذا الجزء من الكتاب قصص قصائد، أو فلنقل هي مزيج لغوي فريد، كيف لا ونحن نقرأ الكثير من مثل ما نقرأ في قصة "شاعر مرهف": "من يضمّ سكّتَـي القطار بعد أن حملتا ملايين العاشقين إلى محطّات اللقاء، ولم يلتقيا! من ينزع عن عقرب الساعة سمّه كي لا ننام ونحن نتحسس أطرافنا المجهدة! من يؤوّل القصص القديمة كي تغدو الجنيّة مثل الأميرة الصغيرة، وكي يغدو الذئب سنجابًا يأوي إلى أكتفانا العالية...! من يستعيد روائح الأمهات من القماط والوسائد الطويلة، من يتيح لنا قلبه لنلقي قصيدة أو لنذرف دمعة مع كثير من الكبرياء..."
في "مرايا" تظهر أفكار الساحلي، وتظهر المبادئ التي أرادها أن تكون وحدة تشكّل نظرته إلى الحياة بعيدًا عن الشعر والشعور، في لغته وأسلوبه ظلّ الشعر والمجاز حاضرين، ولكن طغى الفكر هنا، وفي قصة "ثلاثة جرائم والضحية واحد" تأكيد على ما أقوله. أما القصة الأقرب إلى قلبي وعقلي وذائقتي، تلك التي أنهى فيها الساحلي وختم بها القصص جميعًا، "عسراوي"، وأنا العسراوي فعلًا، حيث تصل يد الشهيد اليُسرى مع ما وصل من أشلاء الشهداء إلى ابنته، وظل باقي الجسد يروي بذراته ودمائه أرض الجنوب وأرض البقاع وأرض البلاد أينما احتاجت أن تُروى.
أكّدتُ على لغة التكثيف الشعري لدى الساحلي، وهي ميزة قد لا تحضر عند جميع كتّاب القصة القصيرة، بل نجدها عند كتّاب القصة القصيرة جدًّا، أو القصة الومضة، وهنا أقول إن الساحلي يجب أن يذهب بأسلوبه إلى ذلك المجال، فهو القادر، أو فلنقل من الأقدر من أبناء جيلنا من كتّاب القصة الومضة، ذلك المكان الذي يحتاج أمثال الساحلي، فهو أرض خصبة وجديدة، وهو مكان بدأ مدّعو إتقانه يجتاحونه، وعلى القادرين أن يهبّوا لنجدته.
مجموعة "طفل المحار طفل المجاز" امتازت باللغة السلسة والعذبة، وامتزات بالتكثيف أيضًا، ولكن ما لم أذكره سابقًا، وأريد التأكيد عليه هنا، أن السردية كانت حاضرة بقوة أيضًا، والشخصيات التي تشبهنا، بمآزقها وعلاقاته وأزماتها وصراعاتها حضرتْ بقوة أيضًا، والتركيز في المقال على اللغة والأسلوب، كان لتميّز هذه النصوص في هذا المجال.
وقبل أن أنهي أريد العودة إلى قصة "مارادونا"، وهي قصة كانت الأعمق في رمزيتها، وتأثيرها يكون قويًّا خصوصًا عندما نحيلها إلى إسقاط حول ما نعيشه اليوم، فصاحب الكرة والحذاء الغالي الثمن، المتحكّم بكلّ مفاتيح اللعبة في الحيّ ذاك، والذي، بالصدفة، ارتدى في أحد الأيام في كل قدم فردة حذاء مختلفة، عندها يصبح هو "الموضة" والسائد، لأنه الأقوى والأغنى لدى أطفال الحي، وظلّ التأثير المخادع الذي لحقه على أساسه جميع الأطفال، على الرغم من ارتدائه الحذاء العادي في اليوم التالي. ونحن أبناء هذه البلاد، نلحق الأقوى بخديعة ووهم، حتى هو، ذلك الأقوى لم يكن يقصده، ولم يلتزم به، بل كان بالنسبة إليه فرصة للتحكم بعقولنا وخياراتنا ومبادئنا.
هذه مجموعة من قصص الطفل الكامن فينا، مجموعة عنّا وعن الريف الذي يعيش فينا مهما خرجنا منه شكلًا، فهو يظل حاضرًا في كل ما فينا من صدق المشاعر والمحبة والطيبة، طفل المحار يخرج ليعانق طفل المجاز.
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
22:59
تحليق للطيران المسيّر الإسرائيلي على علو منخفض في محيط السلسلتين الشرقية والغربية فوق بريتال الطيبة دورس مجدلون حزين طليا الخضر سرعين النبي شيت وشمسطار
-
22:34
زحمة سير خانقة على الأوتوستراد الساحلي من أنطلياس الى نهر الموت نتيجة اصطدام سيارة بالفاصل الوسطي على اوتوستراد الزلقا المسلك الغربي ودراج من مفرزة سير الجديدة يعمل على المعالجة
-
21:59
المتحدث العسكري للحوثيين: 3 طائرات مسيّرة استهدفت موقعا عسكريا إسرائيليا مهما في النقب وميناء أم الرشراش
-
21:43
مصدر أميركي: إسرائيل تعد واشنطن بوقف هجماتها على قوات الجيش السوري اعتبارًا من مساء اليوم
-
21:40
مصدر أميركي: واشنطن تطلب من إسرائيل وقف هجماتها ضد الجيش السوري في جنوب سوريا
-
21:28
أ ف ب: القضاء الفرنسي يطلب تحديد مكان وجود بشار الأسد في إطار تحقيق حول مقتل صحافيين في سوريا عام 2012
