"اذا انا بموت رح موت من الفقد مش من المرض" (زياد الرحباني)
العظماء وحدهم لا تتحمل قلوبهم قساوة الحروب والمجازر وموت الأطفال جوعا وعطشا. العظماء وحدهم لا يتحملون الهزيمة التي تكسر الضهر، فتنكسر أرواحهم قبل ان تنكسر ظهورهم. وكما يبدعون في حياتهم يبدعون في موتهم، ولم يكن خليل حاوي أولهم ولا زياد الرحباني آخرهم. بعضهم يختار طريقة موته، وبعضهم يختاره الموت بعد أن تكون نفدت الحياة من روحه.
رفض زياد ان يبقى، لأنه رأى ان مازال، مازال حيا وخرج من شرنقة كيان الاحتلال، ليحقق حلمه في إقامة دولته من الفرات الى النيل، وانه مازال يهدم البنايات ويقتل الناس، رفض العلاج لأنه لا يريد ان يرى البلاد ممددة على فراش النعش وتنتظر حفار القبور. أراد الرحيل لأنه خاف من ان ينسانا ايل الخلاص ويهملنا نبع الينابيع، ويتوه عن الطريق الفارس الذي ننتظر. قرر ان يهاجر عندما شعر انه لم يعد يفيد البقاء.
لقد اختار زياد الهجرة في زمن الجفاف والظمأ وشح المطر والتصحر الفكري، وهجوم البداوة على الحواضر المتمدنة.
كيف لا يهاجر زياد وهو عرف بالنسبة لـ "بكرة شو"، وعرف اننا نحضر فيلم "أميركي طويل"، وقد لا ينتهي في هذا الزمن الرديء. كيف لا يفكر بالهجرة وهو الذي كان يقول ورفيقه المخرج الكبير طوني شمعون: "قول الله بعدنا طيبين". وهل يوجد أصعب من ان تكون أرفع امنيات البني آدم ان يكون ما زال على قيد الحياة؟
أمثال زياد لا يطيقون الحياة تحت ظلال الهزيمة، لا يطيقون الانكسار، ودون ان يلوح لهم بصيص ضوء من بعيد، لقد شرب من كأس الخسارات ما يكفي، ليؤمن له حجج الهجرة وتأمين جواز السفر وتأشيرة الهجرة.
بعد استشهاد السيد كتب زياد: "أنا اذا بموت رح موت فقع من الفقد مش من المرض".
وهيك صار، هاجر من الفقد لأنه رفض يشيل المرض.
"بلا ولا شي" ترك كل شي وراح. بس شاف "كل شي فاشل"، و"السهرية" رح تخلص قبل ما يطلع الضو، ركب ع حصان الرحيل وفل، بس شاف خلص الهدوء النسبي وولعت كتير، وما عاد الله يساعد ولا يعين، قطع تكة طيار وسافر.
بس صار "نزل السرور" نزلة صدرية، يعني مرض بالصدر مش الصدرية تبع الصدر، سكر النزل وفل.
كان عم يفكر يشوف "قرطة" الناس جماعة مش شقفات، وكل شقفة مشقفة، ومتل سندويش فلافل بدون طراطور، ويصير مع كل عضة غصة.
كان عم يفكر يشوف الرايح رايح والجايي جايي، بس ما ظبطت لانو جرذان المجرور قطعوا شريط الكهربا.
كان زياد محظوظا، لأنه لا يقبل الانتحار حتى ولو كان في قمة اليأس والخيبة، وجاءته بطاقة السفر من حيث كان لا يدري.
كان زياد الحمل والحامل والمحمول، كان حملا ثقيلا لأنه كان مشاكسا عنيدا، رفض الوراثة بكل مظاهرها، لكنه نهل من المخزون ما يبلور ابداعه، واراد ان يرى ببصره وبصيرته، ويكتب بقلمه الخاص على دفتره الشخصي، لذلك كان الحمل الثقيل.
كان الحامل الذي رأى وعرف واستوعب وهضم كل العثرات، وتحمل كل اللدغات التي زادته ايمانا بقضية الوطن والأمة.
وكان المحمول في عقول شرفاء العالم العربي من عامة الناس والادباء والموسيقيين والمفكرين، حتى الذين يخالفونه الرأي، كان رفيقهم في سهراتهم وأوقات راحتهم وحين تتراكم مشاكلهم، وحده زياد يشبه فيروز، فلا يوجد من يتجرأ ويقول انه لا يحبه.
لم يكن زياد رجلا واحدا بل كان جبلة من الرجال، فهو الموسيقي المبدع، وهو الساخر الى حدود الشتيمة، وهو الأديب والشاعر، وهو السياسي و صاحب النكتة الحاضرة واللعنة الحاضرة، وهو الجدي الى حدود الصرامة، والهزلي اكتر من ثلاثي الشعر العربي في الزمن الاموي.
زياد لم يكن كافرا ولم يكن مؤمنا، كان متصالحا مع تشرده في شارع الحمراء، هذا التشرد لم يتناف ابدا مع جلوسه على اعلى مراتب الابداع في العالم. لم يعش زيادة في المنطقة الوسطى بين الابداع والتشرد، فالتشرد عند العظماء مصدر الابداع.
تأكد زياد انه سينقطع الامل الباقي بهاليومين، وخلصت سنة الألفين وانقطع الخشخاش من السهلين، وما عاد في يمشي مخشخش لأنو كترو الزعران، وما عاد قادر يضوي الضو فقرر ان يغادر.
مع كل صباح سيسأل الناس عنك، سيسألون كيفك انشالله منيح؟ ليش صرت برات البلاد وانت عندك جوقات ولاد؟
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
23:47
وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط: اتخذنا اليوم خطوات في إطار خطة سلام لتخفيف المعاناة ودعم حل الدولتين.
-
23:06
وزير الخارجية الهولندي: نؤيد السعي إلى دولة فلسطينية مستقلة قابلة للحياة إلى جانب إسرائيل" آمنة، ورأينا حديث سموتريتش وبن غفير عن التطهير العرقي بغزة ومنعهما إجراءات تخفف معاناة سكانها.
-
23:05
متحدثة باسم مكتب رئيس وزراء بريطانيا: ستارمر أوضح لنتنياهو أن وضع غزة لا يطاق وأن وصول الإغاثة بات أكثر إلحاحا.
-
23:05
نتنياهو: رئيس وزراء بريطانيا يمنح جوائز لحماس ويعاقب ضحاياه
-
23:04
ترامب: زوجتي ميلانيا شاهدت الصور المروعة من غزة والوضع هناك قاس ويجب إدخال المساعدات.
-
22:07
هيئة البث "الإسرائيلية": رئيس الأركان أبلغ المجلس الوزاري المصغر أمس أن أهداف الحرب أصبحت متضاربة.
