اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

عاشت ادلب، ما بين 2015 - 2024، تجربة اقتصادية لا تشبه تلك التي كانت سائدة في مناطق سيطرة الحكومة السورية القائمة آنذاك، وقد امتلكت من خلالها «دورة رأس مال» متكاملة، وهي مرتبطة تماما بعمقها التركي الذي يتبنى النهج الرأسمالي الغربي القائم على الحرية الإقتصادية المفرطة، والتي تشكل الأرضية الخصبة لوقوع شرائح مجتمعية واسعة «ضحية» لتلك السياسات، وفيها، أي في تلك التجربة، لعبت محلات «الصيرفة» دورا محوريا، لكن تكاثرها بدرجة كبيرة قاد «هيئة تحرير الشام» في العام 2018 إلى محاولة وضع أطر ناظمة تكون أكثر انضباطا، قكان القرار بتحويل شركة» الوسيط» المالية بإدلب، والتي كانت تدار من شخص يعرف باسم» أبو هاجر الشامي، إلى بنك أطلق عليه اسم «بنك الشام» الذي اتخذ من مقر «البنك الصناعي» بإدلب سابقا مقرا له، ومع وصول «الهيئة» إلى سدة السلطة في دمشق، شهر كانون أول الفائت، تحول «بنك الشام» إلى ما يشبه البديل عن «المصرف المركزي السوري» الذي بات يمثل، فحسب، واجهة مالية رسمية، لكن ما يجري من خطوات عملية على الأرض يكاد يساير تفريغ تلك «الواجهة» حتى من صفتها تلك.

كشف موقع «انتلجتس»، الإستخباري الفرنسي، في تقرير له نشره يوم 13 تموز الجاري إن «أبو مريم الإسترالي»، هو من «يتولى اليوم إدارة تطبيق( شام كاش)»، وهو منصة مالية رقمية مدعومة من الحكومة السورية، وقد ألزمت وزارة المالية السورية محاسبي الجهات العامة بتحويل الرواتب إلى حسابات مصرفية مرتبطة بهذا التطبيق الأخير اعتبارا من أول شهر أيار المنصرم، وأضاف تقرير الموقع إن «أبو مريم» هو الذي يقود «سياسة الغفران»، من خلال ترؤوسه للجنة تابعة للقصر الرئاسي بشكل مباشر، ومهمتها «التفاوض مع رجال أعمال سبق لهم أن تعاونوا مع نظام بشار الأسد في السابق، بغية استعادة جزء من أموالهم في مقابل السماح لهم بممارسة نشاطهم الإقتصادي من جديد».

نشرت وكالة «رويترز» قبل أيام تقريرا استقصائيا بعنوان «سوريا تعيد تشكيل اقتصادها في الخفاء، وشقيق الرئيس يتولى القيادة»، وهو وإن كان مسبوقا بالعديد من التقارير التي كانت تصب في ذات الإتجاه، إلا أنه الأعمق والأكثر استحضارا للوقائع، والأنجح في تصدير صورة المشهد الإقتصادي السوري الراهن، و الذي سيكون له دور كبير في رسم ملامح سوريا المستقبلية، وتحديد خياراتها، إذ لطالما كان من نافل القول إن السياسة ليست سوى انعكاس لحقائق اقتصادية و اجتماعية.

يقول التقرير «في الأسابيع القليلة التي تلت سقوط دمشق تلقى رجل أعمال بارز مكالمة هاتفية ليلية لرؤية(الشيخ)»، ويضيف «كان المكان مألوفا، وهو مبنى غالبا ما كان يشهد عمليات ابتزاز دورية لرجال أعمال في ظل حكم بشار الأسد»، وعندما وصل هذا الأخير إلى المكان المحدد «استقبله رجل بلحية طويلة داكنة، والمسدس على خصره»، لكن المضيف لم يعلن عن اسمه الصريح، واكتفى، بعد أن مد يده للمصافحة، بالقول: «أبو مريم»، والجدير ذكره إن كلا من تقريري «انتلجتس» و «رويترز»، كانا قد عرفا الأخير بأنه يدعى «أبو مريم الأسترالي»، واسمه الحقيقي ابراهيم سكرية، من أب لبناني وأم استرالية، وله صفحة على فيسبوك باسم «ابراهيم بن مسعود»، وهو يعرف عن نفسه فيها على إنه «يحب الكريكيت والشاورما»، كما يتشارك التقريران في أن «أبو مريم» مدرج على «قائمة بلاده للأفراد الخاضعين لعقوبات بسبب تمويله للإرهاب»، ويتشاركان في تحديد المهمة الموكلة إلى هذا الأخير، التي ذكر التقريران إنها تنطلق من «ترأسه للجنة وظيفتها إعادة تشكيل الإقتصاد السوري، والسيطرة على مفاصل الإقتصاد، عبر ابتزاز رجال أعمال بعد فرض أتاوات عليهم»، ويتابع التقرير سردية الواقعة، سابقة الذكر، فيقول «سأل الشيخ رجل الأعمال عن عمله، وعن مقدار الأموال التي جناها من ذلك العمل»، قبيل أن يفاجئه بـ «نقاط الضعف التي تضمنتها أجوبته»، كما يذكر التقرير رواية لرجل أعمال آخر، كان قد حضر إلى المقر نفسه، قال فيها «كانوا يعرفون كل شيئ عني، أرباحي، علاقاتي، حتى حساباتي في الخارج، ولا أعرف كيف حصلوا على كل تلك المعلومات»، وفي تفسير ذلك يشير التقرير نقلا عن «مصدر استخباراتي غربي» كان قذ ذكر لـ«رويترز» إن «جزءا من بيانات التحقيق مصدره تسريبات من شركاء روس سابقين لجهاز أمن الدولة السوري».

يعرف تقرير «رويترز» بشخصية حازم الشرع، شقيق الرئيس السوري، فيقول عنها إنها «خفية، ونادرا ما تظهر للعلن»، كما يذكر إنه من المعتقد إن «حازم تلقى تعليما في بريطانيا»، لكنه الآن بات «يشرف على شبكة مصالح اقتصادية وأمنية وفقا لخمسة مصادر من بينها رجل أعمال تم التحقيق معه من قبل اللجنة»، التي يقصد بها هنا اللجنة التي يرأسها «أبو مريم الأسترالي»، والمؤكد هو إن التقرير أراد القول، من خلال توصيفاته السابقة جنبا إلى جنب تسليط الضوء على المهام الراهنة لحازم الشرع، الذي سبق له وأن كان مديرا عاما لشركة «بيبسي كولا» بأربيل العراق، أن هذا الأخير واقف على رأس هرم التشكيل الإقتصادي الجديد الذي يهدف إلى نسف الطبقة «الأوليغارشية» القديمة، التي كانت قائمة زمن الأسدين الأب والإبن، وتمكين وجوه جديدة، موثوقة الولاء، من لعب الدور الذي كانت تلعبه هذي الأخيرة، في محاولة لخلق قاعدة اقتصادية - اجتماعية للنظام قادرة على قيادات التحولات التي يجب أن تقود إلى رسوخ نظام الحكم، وتأمين ديمومة استمراره في مواجهة العواصف التي سوف تهب، من دون شك، على المديين القريب والمتوسط.

يعرض التقرير أيضا للدور الذي يقوم به عبدالرحمن الزربة، واسمه الحقيقي مصطفى قادر ومهنته السابقة «فران» قبيل أن ينخرط في سوق المال بإدلب، ويصفه بـ«حاكم الظل» للمصرف المركزي السوري الذي تخلى عن دوره في رسم السياسات الإقتصادية للبلاد، ليكتفي بالتواري وراء دور هو أشبه بـ«الديكور»، لكن التقرير يضيف إن هذا الشكل، وعلى الرغم من فقدانه لوظيفيته المحورية، لا يزال ضروريا لـ« تمرير ما يراد تمريره» بغرض إكسابه «المشروعية».

في سياق ذكره لما «أنجزته» اللجنة حتى الآن يذكر التقرير إن الأخيرة «استحوذت على أصول تقدر قيمتها بنحو 1.6 مليار دولار، منها 1.5 مليار دولار من ثلاثة رجال أعمال كانوا مقربين من آل الأسد»، كما تم «الإستحواذ على نحو 80% من امبراطورية كل من محمد حمشو و يسار ابراهيم وسامر فوز، مقابل الحصانة لجميع هؤلاء»، كما يذكر التقرير إن« العديد من رجال الأعمال اضطروا للتبرع بمبالغ ضخمة لصالح مشاريع مدنية، تنفذها الدولة الجديدة كشرط للبقاء في السوق»، وإن ذلك «غالبا ما جرى دون عقود قانونية»، والمخارج في ذلك كانت تتمحور عبر إطلاق تسميات عليها من نوع «مساهمة وطنية»، أو «زكاة اقتصادية»، لكنها كانت أشبه بضريبة الولاء أكثر من أي شيئ آخر، وفقا للتوصيف الذي استخدمه تقرير الوكالة.

ما يمكن استخلاصه من تقرير «رويترز»، آنف الذكر، هو أن ما يجري العمل عليه هو انقلاب اقتصادي، يقوم على فك عرى الترابط مع المرحلة السابقة عبر تهشيم رموزها وإنشاء أخرى بديلة لهذي الأخيرة، والمعيار في ذلك لا يقوم على الولاء فحسب، بل وينسجم أيضا مع التوجهات الإديولوجية للدولة الجديدة عبر استحضار مصطلحات ذات خصوصية دينية لها علاقة بإدارة المال، والمؤكد هو إن هذا النمط سوف يؤدي إلى تغييرات جذرية، اجتماعية وثقافية، من شأنها تعميق «الخنادق» الفاصلة ما بين مكونات وأطياف الشعب السوري، التي لا ينقصها الكثير من العمق لكي تشكل عائقا أمام انصهارها في نسيج وطني جامع يكون قادرا على حمل راية «القيامة» لبنيان تداعت جدرانه بمفاعيل أكثر من أن تعد أو تحصى.


الأكثر قراءة

الأنظار الى <جلسة الثلاثاء> و<الحزب> مُلتزم بالحوار مع الرئيس عون قادة حزبيون هددوا بتفجير الشارع: الاصبع على الزناد قاسم: لن نقبل أن يكون لبنان ملحقاً بإسرائيل والبلد معرض لخطر وجودي من إســرائيل وداعــش