تحمل كلمة "الثقافة" معانٍ كثيرة ومختلفة، وهي تعبّر عن مختلف العادات والتقاليد التي تنتقل من جيلٍ إلى جيل. ونقصد بهذه العادات أي المعتقدات الدينية، العادات والأعراف و الادبيّات، الممارسات الأخلاقية، الحقوق، بالإضافة إلى اللغة. فجميع هذه الأمور تشكّل الثقافة التي ينتمي إليها الفرد.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ إنسانيّة الفرد تتغذّى من عاملين أساسيّين: الأوّل هو العامل الطبيعي الذي يشمل الجينات واللغة والتربية المنزلية، التي تتمثّل بانتقال الفرد من المجتمع الصغير العائلي، إلى الأكبر أي المدرسة، إلى الأوسع والأكثر تعدُّدا المُمثَّل بالجامعة، وصولا إلى المجتمع شبه النهائي. أمّا العامل الثاني فهو التطبيع الاجتماعي المرتبط بمبدأ التوارث الثقافي، الذي يُعتَبر توارثا طبيعيًّا، خصوصا في السنوات الأولى من عمر الأفراد.
فيتبنّى الفرد أفكار وسلوك الأجيال السابقة، وتصبح جزءا لا يتجزّأ من إنسانيّته. فتتشكّل لديه علاقة وثيقة بثقافته، وفي كثير من الأحيان يشعر بتعاسة وتوتّر تجاه الثقافة التي يعيش فيها، ويتفاعل معها دون أن يجد سببا لذلك. وهنا لا بدّ من طرح السؤال التالي: هل يمكن للفرد أن يتخطّى ثقافته الأولى ويعبّر عمّا بداخله بحرية؟ أم أنّ هناك نوعا من الكبت يجعله يشعر بالتّعاسة؟
من عمق هذه الأفكار يبرز سيغموند فرويد كمفكّر حرّ أسّس علم التحليل النفسي ومدرسة التحليل النفسي وعلم النفس الحديث، ويقدّم دراسات موثّقة عن علاقة الفرد بالثقافة، وكيف يمكن لهذا الاخير أن يتأثّر في ظلّ هذه الأفكار. ففي كتابه "قلق في الحضارة"، والذي أنجزه عام 1930، يتناول فرويد العلاقة المعقّدة بين الفرد والثقافة، معتبرا أنّ الثقافة تتطلّب كبت الغرائز الفردية ، من أجل خلق النظام الاجتماعي. والمقصود بذلك أنّ الإنسان في ظلّ الحضارة الحديثة. وبحسب فرويد، يعيش في حالةٍ من التنازل عن الذّات حيث يتخلّى عن رغباته الفطرية مقابل الإنتماء إلى المجتمع. و قد رأى أنّ هذا التنازل يخلق توتّرا دائما بين الفرد والثقافة، ويجعل السعادة شبه مستحيلة.
فالفرد بطبيعته يحمل دوافع داخلية تبحث عن الإشباع الفوري، ولكن المجتمع لا يمكن أن يقوم إلّا إذا تمّ ٳخضاع هذه الدوافع لنظام من الضوابط والقوانين. فإنّ هذا الكبت ضرورة حضارية، وبفضله يتمّ بناء المؤسسات وإقامة نظم العدالة وتحقيق التعايش السلمي، وغيرها من مظاهر التّقدّم الاجتماعي. لكنّ هذا التّقدّم له ثمن، وهو أنّ الفرد يجد نفسه في صراع دائم بين رغباته الطبيعية ومتطلّبات الثقافة. ومن هنا ينشأ "القلق" الذي يتحدّث عنه فرويد ما يجعل الانسان يعيش في حالة توتّر دائم.
وقد ذهب فرويد إلى أبعد من ذلك ليشرح السبب المعقّد لشعور الفرد بالتوتّر الدائم، معتبرًا أنّه لا يعيش فقط داخل مجتمع تحكمه قوانين خارجيّة، بل يحمل في داخله سلطة داخليّة تُعرَف "بالأنا الأعلى" وهي التي تعبّر عن القيم والمبادئ التي يكتسبها منذ طفولته ، وتلعب دور الضمير داخل الإنسان الذي يجعله ملتزما بالقوانين الاجتماعية. لكن في أعماق النفس تبرز "الهو" كمصدر للرغبات الإنسانية التي لا تعرف القوانين والضوابط. ومن هنا ينشأ الصراع بين متطلّبات "الهو" ليأتي "الأنا الأعلى"، ويذكّر الفرد بالقيم والمعايير. إلا أنّ هذا الصراع الداخلي ضروري لقيام الثقافة واستمرارها. فمن دونه، لن يكون هناك ٱلتزام بالقوانين ولا حياة جماعيّة ممكنة.
فبالرّغم من حديث فرويد عن القلق الذي يشعر به الفرد، إلا أنّه ٱعتبر أنّ الثقافة مصدر للأمان والمعاناة معا. فالثقافة تحمي الإنسان وذلك من خلال وضع القوانين والأعراف والمؤسسات، التي تجعل الفرد يعيش حياة منضبطة يسود فيها احترام الآخر والالتزام بالقيم. إلا أنّ هذه الثقافة تسبّب نوعا من الٳحباط لديه لأنّها تقيّد حرّيّته ورغباته الطبيعية. وقد قدّم فرويد نقضا للحضارة باعتبارها سببا للمعاناة النّفسية. ففي نظره، الثقافة هي السجن الأنيق الذي نحيا فيه والذي ٳن حمانا، فهو أيضا يمنعنا من التّحقّق الكامل لأنفسنا.
وفي الحديث عن العلاقة بين الفرد والثقافة، باتت الحاجة ملحّة لتسليط الضّوء على الدين كأحد أهم مكوّنات الثقافة. ففي كتاب فرويد "مستقبل وهم" يرى، أنّ الدين ليس إلّا تعبيرا عن أماني الإنسان العميقة، ورغباته في الحماية والعدالة والخلود. فالدين في رأيه نشأ كآليّة دفاعيّة ٱخترعها الإنسان، ليواجه بها مخاوفه الوجوديّة، مثل الخوف من الموت، ومن قوى الطبيعة، ومن الألم والمعاناة. وهكذا، إيمان الفرد بوجود إله يشبه الأب يمنحه شعورا بالأمان في مواجهة تحدّيّات الحياة اليومية. إلّا أنّ فرويد وصف الدين بأنّه وهم ثقافي يقوم على تقوية "الأنا الأعلى" داخل الفرد أي الضمير، وذلك من خلال مفاهيم مثل "الخطيئة" و"العقاب الإلهي".
وبالرّغم من أنّ هذا الوهم لا يستند إلى حقائق علميّة، فإنّه يؤدّي وظيفة نفسية واجتماعية مهمّة، ألا وهي تنظيم سلوك الأفراد وضبط نوازعهم الغرائزية. فلقد ٱعتبر فرويد أنّ الدين أداة للسيطرة على الفرد لا من الخارج بل من الداخل وذلك من خلال الإقناع الداخلي بالذنب والطاعة.
وإذ ذاك، ٳنّ قراءة فرويد ضروريّة لفهم الطبيعة البشرية وبالتالي لفهم أنفسنا. فبالرّغم من وصف فرويد للثّقافة كمكان يقمع الفرد، إلّا أنّ وجودها ضروري لتنظيم الحياة الاجتماعية وسلوك الأفراد. وٳنّ الصراع بين الرغبة والواجب الذي يحدث داخل الفرد هو الذي يجعل الثقافة قائمة وبالتالي يؤدّي إلى بناء المجتمعات.
يتم قراءة الآن
الأكثر قراءة
عاجل 24/7
-
21:41
تحليق مستمر للطيران المسيّر على علو منخفض في أجواء قرى البقاع الغربي، بعدما كان استهدف محيط بلدة زلايا بـ3 غارات.
-
21:09
الطيران المعادي يستهدف مناطق جباع واقليم التفاح وجبل الريحان في جنوب لبنان.
-
21:05
الطيران الحربي المعادي يستهدف بغارتين وادي برغز في جنوب لبنان.
-
20:59
بطولة أمم آسيا في كرة السلة: لبنان خارج البطولة بخسارته أمام نيوزيلندا (86-90).
-
19:45
بطولة أمم آسيا في كرة السلة: لبنان يتقدم على نيوزلندا بفارق 15 نقطة (45-30) في نهاية الربع الثاني.
-
19:24
بطولة أمم آسيا في كرة السلة: منتخب لبنان يتعملق أمام نظيره النيوزيلندي ويتقدم عليه بفارق 20 نقطة (32-12) في نهاية الربع الأول.
