اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


في الأيام الأخيرة، ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بفيديوهات توثّق مشاهد مقلقة من طرابلس: أكوام ضخمة من الإطارات تُحرق في العراء، ليُستخرج منها الحديد والنحاس بغرض بيعه. مشاهد الدخان الأسود المتصاعد لم تكن مجرد مشهد عابر، بل جرس إنذار جديد يضاف إلى سلسلة من التلوث البيئي والصحي الذي تعيشه المدينة منذ سنوات.

من يقف وراء الحرق؟

في مقابلة أجرتها جريدة الديار مع ناشط بيئي طرابلسي فضّل عدم ذكر اسمه، كشف أن المسؤولية الأساسية تقع على أصحاب "البور" المنتشرة في المدينة. قائلاً: "في طرابلس هناك نحو 20 بورة، 10 فقط منها مرخّصة. أما البقية فتعمل بشكل عشوائي، وتقوم بحرق الدواليب بشكل شبه يومي. حتى في مكب طرابلس نفسه تُحرق النفايات والدواليب على مرأى من البلدية التي تغضّ الطرف. بل أكثر من ذلك، هناك تواطؤ واضح من قبل القوى الأمنية التي تتلقى الأموال مقابل الصمت عن المخالفات".

ويضيف الناشط، بنبرة يائسة: "تواصلنا سابقًا مع وزير البيئة السابق ناصر ياسين، كان يتجاوب بدايةً، لكن سرعان ما انقطع التواصل. لا يوجد حل في هذا البلد لأن الأجهزة الأمنية نفسها متورطة، ومرتهنة للرشى. لم نعد متفائلين لا بالمسؤولين ولا بالرئاسة".

أبي راشد: الحل في مراكز رسمية لفرز المعادن

وفي هذا السياق، يؤكّد الناشط البيئي بول أبي راشد أنّ المسؤولية عن حرق الدواليب في طرابلس موزّعة بين أفراد يستغلّون الوضع الاقتصادي لجني أرباح من بيع الحديد والنحاس، وبين ضعف الرقابة الرسمية التي تسمح باستمرار هذه الممارسات.

ويرى أبي راشد أنّ سكوت الدولة يعكس غياب الإرادة الحقيقية للتعامل مع الملف، وكأنّه تفصيل أمام الأزمات الكبرى، في حين أنّه بالنسبة لأهالي طرابلس مسألة يومية تمسّ صحتهم مباشرة. ويشدّد على أنّ الحرق يترك انعكاسات خطرة على حياة الناس، من تلويث الهواء وانتشار الأمراض التنفسية إلى تشويه صورة المدينة.

أما عن الحلول، فيدعو إلى تطبيق القانون بصرامة ومنع الحرق نهائياً، بالتوازي مع إنشاء مراكز رسمية لفرز وتجميع المعادن بطريقة قانونية، تتيح بديلاً منظّماً ومربحاً لمن يعملون في هذا المجال بعيداً عن تلويث البيئة.

ماذا يقول العلم؟ أخطر الانبعاثات

للوقوف عند المخاطر العلمية لحرق الدواليب، التقينا الدكتورة فاطمة العلي، الخبيرة في علوم الكيمياء وكيمياء الغلاف الجوي. تشرح العلي أنّ الدخان المنبعث من الإطارات يضم مزيجاً معقداً من الملوثات التي يمكن تقسيمها إلى ست عائلات رئيسية، وهو تصنيف معتمد في الأبحاث البيئية الدولية.

تبدأ العلي بحديثها عن الجزيئات الدقيقة (PM2.5 وPM10) التي تُعد الأخطر لأنها قادرة على اختراق عمق الرئتين والوصول إلى مجرى الدم، مسببة التهابات مزمنة، أزمات ربو، وأمراضاً قلبية وتنفسية قد تكون مميتة. ثم تشير إلى الهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات، مثل البنزو(أ)بيرين، وهي مواد مسرطنة من الدرجة الأولى أثبتت الدراسات ارتباطها المباشر بزيادة معدلات سرطان الرئة والجلد، إضافة إلى قدرتها على إحداث طفرات جينية خطيرة.

وتوضح أنّ الأمر لا يتوقف هنا، إذ إن المركبات العضوية المتطايرة مثل البنزين والبيوتادايين تتميز بسهولة تبخرها وانتشارها في الهواء، ما يجعل استنشاقها أمراً حتمياً في محيط الحرق. هذه المواد، بحسب العلي، تسبب صداعاً ودوخة وغثياناً عند التعرض الفوري، بينما يؤدي التعرض المزمن لها إلى ارتفاع احتمالات الإصابة بالسرطان.

أما الغازات السامة، فهي الأكثر شيوعاً وتأثيراً سريعاً، خصوصاً أول أكسيد الكربون الذي يقلل من قدرة الدم على نقل الأكسجين وقد يؤدي إلى حالات اختناق مميتة، وثاني أكسيد الكبريت الذي يهيّج الشعب الهوائية ويسبب نوبات ربو حادة. يضاف إلى ذلك المركبات العضوية المعقدة مثل الديوكسينات والفورانات التي تُصنَّف من بين أخطر السموم البيئية، إذ تؤثر حتى بكميات ضئيلة على جهاز المناعة والهرمونات وتزيد من احتمالات الإصابة بالسرطان. كما أنّ مركبات الـPCB، التي تستقر في البيئة لفترات طويلة، معروفة بسمّيتها للأعصاب والكبد وقدرتها على التسبب باضطرابات هرمونية.

وتلفت العلي أيضاً إلى خطورة المعادن الثقيلة مثل الرصاص والزنك والزرنيخ والكادميوم التي تترسب في التربة والمياه وتنتقل عبر السلسلة الغذائية لتؤدي إلى تسمم عصبي وأمراض في الكبد والكلى، فضلاً عن مشاكل خطيرة في النمو لدى الأطفال. وتختم مؤكدة أن دخان الإطارات يُعد أكثر تسبباً بالطفرات الجينية بمعدل يتجاوز 16 ضعفاً مقارنةً بدخان الخشب، ويصل إلى 13,000 ضعف مقارنة بانبعاثات محطات الفحم المزودة بأنظمة ترشيح حديثة.

البديل موجود: التدوير بدل الحرق

في مقابل مشهد الحرق والفوضى، برزت مبادرات صناعية محلية تعمل على إعادة تدوير الإطارات بشكل علمي وصديق للبيئة. في حديثه مع "الديار"، يشرح صاحب أحد مصانع التدوير آلية العمل قائلاً إن الإطار ليس مجرّد كاوتشوك، بل يحتوي أيضًا على الحديد والكتان، وجميعها مواد يمكن إعادة الاستفادة منها. يدخل الدولاب إلى ماكينات خاصة مزوّدة بفرامات ضخمة تقوم بفصل المكونات عن بعضها، فيتحول أولاً إلى قطع يبلغ طولها نحو عشرة سنتيمترات، ثم إلى خمسة سنتيمترات، وصولاً إلى حبوب صغيرة من الكاوتشوك. هذه الحبوب تدخل لاحقًا في صناعات متعددة، أبرزها ملاعب كرة القدم التي تُفرش بالعشب الاصطناعي، إضافة إلى بلاط مطاطي وسجاد خاص لامتصاص الصدمات يُستخدم في المدارس والأندية وحتى في مزارع الأبقار والأحصنة.

ويؤكد صاحب المصنع أن هدفهم بيئي بالدرجة الأولى، موضحًا أنهم كانوا يحصلون على الإطارات مجانًا من جمعيات أو سفارات أو هيئات دولية، وأحيانًا يشترونها بكلفة رمزية لا تتجاوز عشرة دولارات للطن، فقط لمنع الناس من اللجوء إلى الحرق كوسيلة للتخلص منها. فالإطار، كما يلفت، يحتاج إلى نحو ألف عام كي يتحلل في التربة بشكل طبيعي، ونحو 600 عام في حال تفاعله مع المواد الكيماوية، وخلال هذه المدة يطلق عناصر خطرة مثل الزنك، الكبريت، والديوكسين. هذه المواد لا تقتصر أضرارها على الهواء فقط، بل تلوّث المياه الجوفية وتؤدي إلى فقدان الأراضي الزراعية صلاحيتها، بحيث تنتقل السموم إلى المزروعات ومنها إلى السلسلة الغذائية.

ويضيف أن مشهد الحفر السوداء التي تخلّفها الحرائق في الطرقات ليس إلا دليلاً على خطورة ما يحويه الدولاب المحترق. فعملية الحرق لا تنتج دخانًا كثيفًا سامًا وحسب، بل تخلّف بودرة الكاوتشوك الغنية بمادة الكربون بلاك، وهي مادة قاتلة للشجر وملوّثة للمياه. لهذا، يشدّد على أن التدوير هو السبيل الأمثل، سواء عبر التفكيك بالماكينات والفرامات أو حتى من خلال عمليات أخرى مثل تحويل الكاوتشوك إلى وقود أو كربون بلاك، رغم أن هذه الأخيرة تحتاج إلى تجهيزات متقدمة وفلاتر عالية الكلفة.

ويشرح أن التجربة اللبنانية في هذا المجال ليست جديدة، إذ إن 95% من الملاعب في لبنان والعالم مجهزة بالعشب الاصطناعي المدعوم بحبوب الكاوتشوك الناتجة من التدوير، بينما تقتصر الملاعب الدولية الكبرى على العشب الطبيعي. غير أن الطلب على هذه المواد تراجع خلال أزمة كورونا ما أثر على حركة المبيعات. ومع ذلك، يؤكد صاحب المصنع أن مشروعه ليس تجاريًا بحتًا، بل يقوم على رؤية بيئية، اجتماعية وثقافية، هدفها تقديم بديل نظيف وآمن عن الحرق العشوائي الذي يدمّر البيئة ويهدد صحة الناس.

ظاهرة تتوسع… والمسؤولية غائبة

من طرابلس إلى بعلبك والهرمل، يتكرر المشهد ذاته: شاحنات محمّلة بالإطارات تُلقى في الجرود وتحترق. رغم شكاوى المحافظين والجمعيات البيئية، تبقى الإجراءات الرسمية خجولة، وسط استمرار عمليات الحرق العشوائي.

في النهاية، يبدو أن معادلة "الحديد مقابل الهواء النظيف" لا تزال تُفرض بالقوة على اللبنانيين. وبينما يعجز المواطن عن التنفس، يواصل البعض جني الأرباح من نار تلتهم مستقبل المدينة وصحة أبنائها.

الأكثر قراءة

صفا في بعبدا ورحال في عين التينة... طبخة بين «الاستاذ» و«العماد»؟ لقاءات براك ــ أورتاغوس الاسرائيلية «سلبية» والجواب الرسمي السبت السلاح الفلسطيني الى الواجهة: ضغط أم تهدئة أم توريط للدولة؟