اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


لا بد من كلمة شكر وامتنان لاتحاد الكتاب اللبنانيين وللمجلس الاسلامي الشيعي الأعلى لتنظيمهما هذه الندوة الفكرية في زمن غياب الفكر السياسي والفلسفة السياسية لدى معظم القوى والفئات المنخرطة في ادارة السلطة والمؤسسات العامة (أوصى كيسنجر في آخر كتاب له الادارة الأميركية بالاهتمام بالفلسفة السياسية)، كما اشكر الصديق الدكتور غازي قانصو الذي قدم لنا بعض الرؤية لدى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب حول دولة المواطنة والعيش المشترك. ويأتي هذا الطرح في لحظة مصيرية تشهد فيها منطقتنا ديناميات تفكك الدول المركزية وانقسام كيانات نظام سايكس - بيكو لعام 1916، كما تنبأ السفير الأميركي المستشرق توماس برّاك، الى كانتونات واقاليم طائفية ودينية ومذهبية متناحرة ومستظلة بالحماية الاسرائيلية. أهمية هذا التصور - الآن و هنا - لدى العلامة المجتهد الخطيب أنه يصبو الى الوحدة الوطنية وبناء الدولة الموحّدة والجامعة لمواطنيها في لحظة انطلاق عوامل التفتيت للنسيج المختلط الديني والثقافي والحضاري والتاريخي في هذا المشرق العربي وفي بلاد الشام خصوصا"، وفي لحظة انهيار الدولة المركزية الراعية لجميع أبنائها ولهذا النسيج الاجتماعي المختلط - المتنوع، وفي مرحلة يتم فيها استيقاظ الهويات الخاصة المتناحرة والقاتلة. حاولت أن أفهم مقاصد الكتابين المقدّمين للمناقشة من خلال تتبع بعض الافكار الواردة فيهما، كأني أحمل خيطا" متخيّلا" يربط بين المفارقات - الاشكاليات التي يصيغها سماحته وكأني أقرأ في كتاب واحد لا كتابين، أقرأ فقه بناء الدولة الوطنية الحديثة في لبنان وسيرة هذا النموذج اللبناني المميّز منذ الاستقلال أو قل منذ التجربة الاسلامية - المسيحية المشتركة التي تجلت في كيان لبنان الكبير لعام 1920. أوافق العلامة الشيخ الخطيب أن مشكلتنا ليست الأديان ولا وجود العائلات الروحية - الطوائف، وانما لعنتنا تكمن في هذه الطبقة الأوليغارشية الحاكمة التي تستخدم الطائفية السياسية كممارسة عملية في ادارة السلطة والمؤسسات والاجتماع بحيث تصبح التفرقة بين المواطنين على أساس الهوية الدينية والمذهبية شكلاً من العنصرية المقيتة التي تداوى بالمواطنة وتكافؤ الفرص والمساواة في الحقوق والعدالة الاجتماعية ومشاركة كل المكونات في عملية إدارة الدولة والمؤسسات العامة والموارد الوطنية. علمًا أن الإصلاح السياسي بحاجة الى تغيير البنية الفوقية (السلطة) وتغيير القوانين والحفاظ على التوازنات القائمة والديموقراطية التوافقية الخاصة بهذا البلد وكذلك تحويل مساحات السلطة السياسة والادارة الدولتية الى "مساحات مدنية" مخصصة للنخب والكفاءات وبعيدة من أن تكون مجالاً للتوظيف الطائفي الزبائني. عندئذ تكون لدينا دولة مواطنة، دولة انسان (كما كان يقول المرحوم سماحة العلاّمة السيد محمد حسين فضل اللّٰه أو المفكر الاسلامي العراقي محمد عبد الجبار الشبوط) دولة رعاية وتنمية اجتماعية مستدامة. خلال التجرية المسيحية الشهابية، والشهابية ليست حكم الجيش والمكتب الثاني كما يروج وإنما هي الصيغة اللبنانية للكاثوليكية الاجتماعية التي عمل الأب لويس لوبريه على نشر مفهومها وأرسل بعثةIRFED  الى لبنان بين 1964- 1958 وقامت هذه البعثة الفرنسية بالتخطيط لتوسيع القاعدة الاجتماعية للدولة وأرست الإصلاح المؤسساتي وأسس التحديث وسياسات التنمية الإجتماعية المستدامة. أي أن التجرية الشهابية الرائدة ترجمت نظرية دولة الرعاية Etat de providence)) وأشركت أوسع الفئات الاجتماعية ومختلف الطوائف في مجال إدارة الدولة والمؤسسات والموارد (التنمية المتوازنة). ولهذا السبب التقت حركة الإمام السيد موسى الصدر الداعية الى المشاركة والإصلاح مع التيار الشهابي المسيحي في حقبة الستينيات. أي ان المسيحية الشهابية، في عمليتها للإصلاح الدولتي والتحديث وتوسيع القاعدة الإجتماعية للدولة أفسحت المجال أمام صعود حراك الإجتماع الشيعي وبخاصة الجنوبي وانخراطه في الإدارة السياسية والمؤسساتية، الأمر الذي ساهم في انهاء الغبن والتهميش الذي استهدف المسلمين ومناطقهم قبل إقرار دستور الطائف. أضف، ان العيش المشترك لا يتعزز فقط بالحوار والتواصل مع الآخر المختلف والاعتراف بخصوصياته وتقديم التنازلات والضمانات المتبادلة وانما كذلك بالانتماء الى هوية وطنية جامعة، هوية ونظرة تحدد العدو من الصديق وتحدد تموضع لبنان حيال قضايا المنطقة المركزية. كما أننا بحاجة الى ثقافة سياسية وطنية واحدة، والى تربية وطنية لبنانية لا تتحدث عن جناحين حتى لا يطير البلد ان طارا. نحن بحاجة أيضاً الى العودة الى خدمة العلم و بناء أطر الانصهار الوطني على غرار الجيش. بالمختصر، بناء الدولة الوطنية التي تحتضن جميع المواطنين من كافة الانتماءات و تمثل جميع المكونات دون تمييز هو الفكرة المكثفة للعيش المشترك فيما بيننا، اذا جاز التعبير.

 

*كلمة د. رافي مادايان – ألقيت بتاريخ 6 أب 2025 في ندوة فكرية في المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى مخصصة لمناقشة طروحات سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب الواردة في كتابين حول "دولة المواطنة"  و "العيش المشترك ".

الأكثر قراءة

صفا في بعبدا ورحال في عين التينة... طبخة بين «الاستاذ» و«العماد»؟ لقاءات براك ــ أورتاغوس الاسرائيلية «سلبية» والجواب الرسمي السبت السلاح الفلسطيني الى الواجهة: ضغط أم تهدئة أم توريط للدولة؟