اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب


شهدت السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا بعلم الميكروبيوم المعوي، أي مجموعة البكتيريا والكائنات الدقيقة التي تعيش في أمعاء الإنسان. ويُنظر إلى هذه البكتيريا باعتبارها عنصرًا أساسيًا في الصحة العامة، حيث تؤثر في الهضم، والمناعة، والتمثيل الغذائي، بل وحتى في الصحة النفسية. وفي هذا السياق، أصبحت العلاقة بين النظام الغذائي وتوازن البكتيريا المعوية محورًا رئيسيًا للأبحاث الطبية، خصوصًا في ما يتعلق بتأثير استهلاك اللحوم الحمراء.

من المعروف أن اللحوم الحمراء مصدر غني بالبروتينات والحديد والفيتامينات الأساسية، إلا أن تناولها بكميات كبيرة ارتبط بنتائج صحية سلبية في بعض الدراسات، أبرزها أمراض القلب، والسكري من النوع الثاني، وبعض أنواع السرطان. ويرجع جزء من هذه التأثيرات إلى التغيرات التي تُحدثها اللحوم الحمراء في تركيبة بكتيريا الأمعاء. إذ كشفت أبحاث حديثة أن الإفراط في تناولها يؤدي إلى زيادة نمو أنواع من البكتيريا القادرة على إنتاج مركبات ضارة مثل "TMAO" (أكسيد ثلاثي ميثيل الأمين)، الذي يرتبط بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية.

وعلى الجانب الآخر، أظهرت دراسات أن الأشخاص الذين يعتمدون على أنظمة غذائية متوازنة تحتوي على كميات معتدلة من اللحوم الحمراء إلى جانب الخضر والألياف، يحافظون على تنوع صحي في الميكروبيوم المعوي. فالألياف الغذائية الموجودة في الخضر والحبوب الكاملة تُعزز نمو البكتيريا النافعة التي تنتج أحماضًا دهنية قصيرة السلسلة، وهذه بدورها تؤدي دورًا مهمًا في حماية بطانة الأمعاء وتقوية جهاز المناعة.

إن اختلال التوازن بين البكتيريا النافعة والضارة بسبب الإفراط في تناول اللحوم الحمراء قد يقود إلى حالة تُعرف بـ "عُسر توازن الميكروبيوم"، حيث تتراجع أعداد البكتيريا المفيدة لمصلحة البكتيريا المسببة للالتهابات. هذا الخلل لا يقتصر تأثيره على الجهاز الهضمي فحسب، بل قد يمتد ليؤثر في صحة الدماغ عبر ما يُعرف بـ"محور الأمعاء-الدماغ"، مما يزيد احتمالية التعرض للاضطرابات المزاجية والنفسية.

ومن المهم الإشارة إلى أن تأثير اللحوم الحمراء على صحة الأمعاء لا يكون موحدًا بين جميع الأشخاص، إذ تتداخل مجموعة من العوامل الفردية في تحديد شدة هذا التأثير. من هذه العوامل الجينات الوراثية، التي قد تجعل بعض الأشخاص أكثر عرضة لتغيرات في ميكروبيوم الأمعاء عند تناول كميات كبيرة من اللحوم الحمراء، وكذلك نمط الحياة اليومي، بما في ذلك مستوى النشاط البدني، ونوعية النوم، ومستوى التوتر النفسي، وهي عوامل جميعها تؤثر بشكل مباشر في تكوين وتوازن البكتيريا المعوية.

بالإضافة إلى ذلك، يؤدي النظام الغذائي الشامل دورًا محوريًا، فالأطعمة الغنية بالبروبيوتيك، مثل اللبن والزبادي المخمر الذي يحتوي على البكتيريا النافعة، وأيضًا الأطعمة الغنية بالبريبايوتيك، مثل الثوم، والبصل، والهليون، والحبوب الكاملة، تساهم في تعزيز نمو بكتيريا مفيدة في الأمعاء قد تخفف من الآثار السلبية للحوم الحمراء في الميكروبيوم. كما أن ممارسة النشاط البدني المنتظم، حتى على شكل تمارين بسيطة مثل المشي أو ركوب الدراجة، تعزز من التنوع البكتيري وتحسن من استجابة الجسم للأنظمة الغذائية المختلفة.

وفي ضوء هذه المعطيات، يؤكد الخبراء على أهمية عدم الامتناع الكامل عن تناول اللحوم الحمراء، نظرًا لما تحتويه من بروتينات عالية الجودة، وحديد، وفيتامينات مثل B12 الضرورية للوظائف الحيوية للجسم. لكن يوصى باعتماد مبدأ الاعتدال والتوازن، بحيث تُدرج اللحوم ضمن نظام غذائي متنوع غني بالألياف من الخضر والفواكه، والبقوليات، والحبوب الكاملة. هذا التوازن يساهم في دعم ميكروبيوم معوي صحي، ويحد من الالتهابات، ويعزز الهضم، ويضمن صحة أفضل على المدى الطويل، بما في ذلك تقليل مخاطر بعض الأمراض المزمنة المرتبطة باضطرابات الأمعاء مثل متلازمة القولون العصبي وأمراض القلب والأيض.

الأكثر قراءة

صفا في بعبدا ورحال في عين التينة... طبخة بين «الاستاذ» و«العماد»؟ لقاءات براك ــ أورتاغوس الاسرائيلية «سلبية» والجواب الرسمي السبت السلاح الفلسطيني الى الواجهة: ضغط أم تهدئة أم توريط للدولة؟