اشترك مجانا بقناة الديار على يوتيوب

ما بين 25 ايار 2000 و 21 أيار 2023، ثلاثة وعشرون عاما مرت، ومشهد استعدته من الماضي، حين علمت أننا سنكون في محضر المجاهدين، قيل لنا سترونهم يقاتلون، في وضح النهار، بكامل قوتهم وعتادهم وقدرتهم وأسلحتهم ووجوههم المخبأة قسرا خلف لثام أو بالألوان.

مشهد، حلمت أن أراه مذ ذاك الحين، حيث كنا ننتظر مرور مواكب النصر من أمام قريتنا البقاعية النائية نوعا ما، انتظرناهم بالورد والأرز لساعات، ولكنهم حين وصلوا كان مرورهم كلمح البصر. وتوقف الحلم هناك.

صباح الحادي والعشرين من أيار

ولكن الحلم عاد ليتأمل مع صباح يوم الأحد 21 أيار 2023، هذا اليوم الذي بدأ باكرا بعد أن صحوت هلعة من كابوس راودني، وهو أن القافلة ذهبت من دوني، لأنني تأخرت عن الموعد.

ولكن هواجسي تبددت لحظة وصلت، الكل هنا الى جانب «كافيه 77»، المكان المحدد للتجمع.

خلية نحل تعمل من ساعات، تديرها الحاجة رنا الساحلي بدقة، توزع المهام والتكليفات.

تكليفي كان الباص رقم 11، لا ليس الأخير، لدينا رقم 12 أيضا، وبدأت رحلة البحث عن ركابي.

دقائق معدودة، ها هو «المايسترو» يصل، مسؤول العلاقات الإعلامية في حزب الله الحاج محمد عفيف. ألقى التحية علينا وتوجه الى الحاجة رنا بالسؤال: حاجة رنا، كيف تجري الأمور. أجابت: الأمور جيدة. وسريعا طلب جمعنا «ع الواقف»، نبهنا فيه الى عدة أمور، حرصا على المشاركين، وحتى تسير الرحلة على خير ما يرام.

وبدأ الإعلاميون بالتوافد. الساعة الثامنة كانت ذروة الازدحام على حاسوب الحاجة رنا للتأكد من رقم الباص. لا أخطاء، الكل حاضر. صعدنا الباصات، وعلى وقع كلمة «يللا» كررها الحاج محمد عفيف ما يزيد على ألف مرة، تحركت الباصات في توقيتها المحدد، الثامنة والنصف تماما.

سرنا ورب العباد راعينا، ومواكبة على طول الطريق. كنا مطمئنين ان مكروها لن يصيبنا.

الطريق وأناشيد الثورة

في الطريق كنا نغيّر الموسيقى إرضاء للجميع. فالباص كان مزيجا من كل الطوائف، ومن جهات إعلامية عديدة: «رويترز»، «لوريون لو جور»، حزب «البعث»، اعلاميون فلسطينيون، اعضاء من «اللقاء الإعلامي الوطني»، يساريون وعلمانيون وإعلاميون من «الثنائي الشيعي»... وسيدة من مؤيدي الشيخ سعد الحريري، وشاب مستقل، وهناك من لم يفصح عن هويته او لعلي لم أسال.

بدأنا بزهرة المدائن لفيروز... ثم جوليا... وبعض من الحماس لم يكن محركا للبعض الذين كانوا يفضلون عدم التفاعل لا أعرف لماذا... بعدها سيد مكاوي نزولا عند رغبة أحد الركاب... ثم «يا بشار» الأنشودة التي ازعجت البعض. كنت حريصة أن أرضي الجميع، فلا تعليمات عن محرمات ، عدا التقيد بشيء من الهدوء لئلا نكون مصدر ازعاج لأحد.

قافلة الباصات

تنبهت إلى بعض الباصات من أمامنا ومن خلفنا، لم يكن سوى علم لبنان مرفوعا، لا علم آخر.

وعلى الطريق المؤدية الى الهدف، صور القادة، قائد الانتصارين الحاج عماد مغنية، والقائد مصطفى بدر الدين وغيرهما، نستذكر بسالتهم وايثارهم.

نمر على الحواجز نلقي التحية احتراما، فتحضرنا ببسمة الجندي في الجيش اللبناني، معادلة الجيش والشعب والمقاومة، التي ترسخت بعد ان امتزجت الدماء بالدماء في مواضع كثيرة، ما بين تحرير أيار 2000 وانتصار تموز 2006 ، وحادثة العديسة في 2010 ، وانتصار الجرود 2017 . ومع ذلك لم يفت المنظمين أن يحصلوا على إذن تسهيل المرور من الإدارات المختصة في الدولة اللبنانية، التي بدورها كانت قد عممت على الحواجز الأمر.

كانت قوانين السير محترمة، والسرعة لم تتجاوز التسعين في الاوتوسترادات. تستخدم اشارة التوقف لينضم الينا بعض المشاركين، هنا صيدا المقاومة صيدا الشهيد جمال الحبال الذي قضى دفاعا عن الوطن.

كنا جمعا وطنيا جميلا. لم تحضر بيننا الخلافات الحزبية مطلقا.

درب الوصول

قبل ربع ساعة من وصولنا الى عرمتى، طالعنا الجبل الرفيع هنا، حيث قدم سيد المقاومة مهجة قلبه الشهيد السيد هادي نصرالله في العام 1997، وفي هذا الموضع ايضا امتزجت دماء الجيش بدماء مجاهدي المقاومة.

وفجأة توقف الباص. وصلنا. كنا حشدا كبيرا، أكثر من خمسمئة إعلامي، ترجلنا من باصاتنا ومشينا أمتارا قليلة حتى وصلنا الى المكان. توقفنا هنيهة بطلب من الحراس. دخل « المايسترو» قبلنا ليتأكد من شيء ما، ثم خرج ووقف على ردهة لنراه جميعا، وطلب ألا يسجل صوته وان يتوقف التصوير حتى ندخل: «مسموح التصوير بشكل كامل ما عدا البث المباشر أثناء الفعالية، حفاظا عليكم». واعتذر عن أي تقصير علما انه لم يحصل أصلا، هي أخلاق المقاومة فحسب. ثم طلب منا أمرا حرك الدمع في المقل، استعار مضمونه من ابي العلاء فقال: «خفف الوطْء مَا أَظن أَدِيمَ الأرض إلا من هذه الأجساد». عبارة حملت كل الوجد والحرص على من استشهد في هذه الأرض. أومأنا برؤوسنا بأننا نعلم قدرها فلا ترتب.

الاستقبال

الاستقبال كان مهيبا، اوركسترا تعزف لحن الترحيب بحب وعطاء وشيء من الشكر على تلبيتنا، وما نحن الملبون وانما هم المتفضلون.

الحلم يتحقق ونحن نقترب شيئا فشيئا، نحن في معسكر بطولي، مدرعات وراجمات وآليات عسكرية وبنادق مصوبة على من يظن بنا شرا، وحماة زينوا قمم الجبل الذي يؤطر المساحة الرملية التي ستشهد على مناورة عسكرية تكشف شيئا من جهوزية المقاومة. هنا عرمتى «كسارة العروش». ما ابهاها، وما أعطر هواها، وما أنقى ترابها. الجبل من أمامنا وسواتر من خلفنا، وظلال فوقنا تقينا حر الشمس، وضيافة على الكراسي، حتى هذه كانت حاضرة.

نعم ها هم يقفون أمامنا، وقد حرصوا علينا كحرصهم على الوطن، دافئة نظراتهم كجو تموز وآب. كل أخذ موقعه. وما هي إلا لحظات حتى دخل رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله السيد هاشم صفي الدين، جلس بيننا، وكان أبعد كرسي عنه يقع على بعد خمسة أمتار ربما أقل. تقدم المقاومون أخذوا الإذن وبدأ العرض التاريخي.

المناورة والقدرات

تأهب. الى الأمام سر. إنّا على العهد يا نصرالله. وقف الجند أمامنا والحق في اعينهم.

الدراجات النارية كانت فاتحة الحدث. تحكم واقتدار، سرعة في التنفيذ وإمكانات أخرى. ثم بدأ القناصة بالتصويب على الأهداف بدقة. «قسما سنعبر. قسما اننا قادمون»، كنا مذهولين. وحضر العماد، فروحه وروحيته كانتا مع المقاتلين في الساح. كانتا تقصفان الهدف فيسقط من أول رصاصة، تحرر الموقع. رأيناهم بأم الأعين وما كنا نراهم إلا عبر شاشات التلفزة أو من خلال الهواتف. هذه المرة مختلفة. رسائل كثيرة للأسلحة النوعية التي تم عرضها... للقدرات البدنية التي أشعرتنا أننا أمام فيلم هوليودي كله إثارة وأحداث، لكنه صادق. تكسرت الحواجز بأيديهم، والفخارات بأرجلهم، وصعدت المسّيرات التي تقدمتها حاملةُ علم الوطن لبنان. فحزب الله هو حزب لبناني اولا. وبهذا الانتماء أسقط مقولة الدويلة ضمن الدولة.

أسر الأعداء، وتحرر الجليل، وانكسر الجدار، واطمأننا على الوطن، فلن يتجرأ معتد بعد هذا العرض المهيب.

لم أسمع أحدا يقول خفت ان يرتد الرصاص علينا، لأن من يحمل البندقية يعرف أين يصوبها. سقطت أعلام «اسرائيل» وتمزقت، وارتفع نداء الحسين (ع). وصلت الرسالة.

طريق الدقائق القليلة

قبل الخروج من المعسكر

انتهى العرض ببندقية الحاج عماد الخاصة قدمت للسيد هاشم صفي الدين، الذي حملها مفتخرا شاكرا ممتنا لعظيم ما خُص به. واندفعنا لنصور لقطات مع المجاهدين. وقد احترقوا من حر الشمس فيما كانوا يفيئون رؤوسنا. لقطات لطيفة كانوا يتفاعلون معنا بعد أخذها. بايماءة رأس أو إصبع او بسمة لم تظهر على الشفاه بل لمعت في الأعين. كم هم لطيفون، رغم بأسهم على العدو.

تفقدت نفسي لا خدج ولا جروح فسلاحهم على العدو لا علينا. كانوا حريصين علينا أكثر من حرصهم على أنفسهم، كيف لا وهم من حموا أرضنا وعرضنا وخاضوا حروبا ضارية وقدموا التضحيات والشهداء من 1982 الى 2000، وبعدها في تموز 2006، وصدوا عنا الارهاب2017 ، وما زالوا مستعدين للحرب لأجلنا. شباب بعمر الزهور آلوا على انفسهم حياة الرخاء ليتقدموا صفوف الدفاع عن كل مواطن على اختلاف دينه وانتمائه.

طريق العودة

عدنا والأمل أن نبقى. فهنا موطننا، ولكن لا بد من عودة الى مناطقنا، ففي جعبتنا رسائل كثيرة يجب ان تصل.

نلنا أقصى ما تمنيناه برؤيتهم يقاتلون، وعدنا وفي وجداننا حكايات فصولها لم تنته بعد، سنرويها لمن لم يتسنَّ له أن يحضر، ونطبعها في دفتر الخلود ليقرأها أبناؤنا ويعرفوا أن هؤلاء هم من حفظوا الماضي والحاضر، وسيحفظون المستقبل.

الأكثر قراءة

أردوغان ضدّ "إسرائيل"... هل نصدّق؟